الصورة الفنية في شعر الرثاء عند العرب (2024)

د. محمّد بن أحمد الخضير

الصُّـورَةُ الفَنِّيَّـةُ

فِي شِعْرِ الرِّثَاءِ عِنْدَ العَرَبِ

مُقَارَبَة أسلوبيَّة

تأليف

د. محمّد بن أحمد الخضير

مدير النشر عماد العزّالي

التصميم ناصر بن ناصر

الترقيم الدولي للكتاب 978-9938-23-058-1

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1443 هـ / 2022 م

العنوان: 5 شارع شطرانة 2073 برج الوزير أريانة - الجمهورية التونسية

الهاتف: 58563568 +216

الموقع الإلكتروني: www.tunisian-books.com

البـريد الإلكتروني: medi.publishers@gnet.tn

هذا الكتاب في أصله رسالة دكتوراه في البلاغة والنقد، نوقشت

في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - كلية اللغة العربية بالرياض بتاريخ 21/7/1437هـ الموافق 28/4/2016 م

وتألفت لجنة المناقشة من:

الأستاذ الدكتور صالح بن محمد الزهراني (مقررًا)

الأستاذ الدكتور أحمد الودرني (عضوًا)

الأستاذ الدكتور محمد البهلول (عضوًا)

ونال بها صاحبها درجة الدكتوراه بتقدير (ممتاز).

المقدمة

الحَمْدُ للّهِ الَّذِي جَعَلَ الحَمْدَ مُفْتَـتَحَ كِتَابِهِ، وَأَلْهَمَهُ الـمُوَفَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَجَعَلَهُ مِفْتَاحًا مِنْ مَفَاتِيْحِ فَضْلِهِ، وَذَرِيْعَةً تُقَرِّبُ إِلَيْهِ. وَسُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَن الظُّلْمِ، وَتَفَرَّدَ بِالبَـقَاءِ وَالخُلُوْدِ، وَكَتَبَ بِحِكْمَتِهِ الفَنَاءَ عَلَى الخَلْقِ، وَدَعَاهُم إِلَى عِبَادَتِهِ، وَأَمَرَهُم بِطَاعَتِهِ، وَنَـهَاهُم عَمَّا حَرَّمَهُ، وَوَعَدَهُم رَحْمَتَهُ، وَحَذَّرَهُم عِقَابَهُ، فَكَانَ مِنْ أَحَاسِنِهِم طَاعَةً لَهُ، وَأَكْثَرِهِم تَـقَرُّبًا مِنْهُ وَزُلْفَىً عِنْدَهُ الصَّابِرُونَ عَلَى فَقْدِ أَعِزَّائِهِم. والصَّلاة والسَّلام على محمَّد نَبِيِّهِ وخَاتَمِ رُسُلِهِ، وَصَفْوَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَخِيرَتِهِ مِنْ عِبَادِهِ، بَعَثَهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَيْهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فَـبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ، وَنَهَضَ بِالحُجَّةِ، وَدَعَا إِلَى الحَقِّ، وَحَضَّ عَلَى الصِّدْقِ وَالصَّبرِ. أَمَّا بَـعْد..

فَإِنَّ الحَيَاةَ تَحْلُو وَتَزْدَادُ أُنْسًا حِينَ يَجْتَمِعُ الـمَرْءُ بِأَهْلِهِ وَذَوِيْهِ، وَبِخَاصَّةٍ وَالِدَاهُ وَأَوْلَادُهُ، فَهِي اللَّحْظَةُ الَّتِي يَجِدُ فِيْهَا الـمَرْءُ سَعَادَتَهُ الغَامِرَةَ، وَهَنَاءَتَهُ الحَقِيْقِيَّةَ، وَفِي مُقَابِلِهَا تَمَامًا الشُّعُوْرُ بِالأَسَى والحُزْنِ الشَّدِيْدِ حين يَرحَلُوْنَ وَيَبقَى الـمَرْءُ وَحِيْدًا. فَلَا أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ رَحِيْلِ أَبٍ عَزِيْزٍ أَوْ أُمٍّ حَانِيَةٍ كانا سببًا في وجوده وتفريحه؛ مُمْضِينَ الأيام والسِّنين الطِّوَالَ فِي تغذيته وتربيته، والعطف عليه، والسُّؤال عن حاله، وترقُّب مجيئه وزيارته، فإذا مَاتَ أَحَدُهُـمَا أَوْ كِلَاهُـمَا بعدما ارتبطت حياته بِـهِمَا ارْتِبَاطًا وَثِيْقًا انْطَفَأَتْ تِلْكَ الأَضْوَاءُ، وَدَرَسَت الدُّوْرُ، وَتَلَاشَتْ تِلْكَ الأَسْئِلَةُ النَّاصِحَةُ النَّقِيَّةُ، وَنَقَصَ أَحَدُ أَسْبَابِ العَطَاءِ وَالإِحْسَانِ، وَغَابَ مَصْدَرٌ مِنْ مَصَادِرِ الأَجْرِ، وَانْقَطَعَت البَهْجَةُ بِرَحِيْلِ مَصْدَرِ الأَمَانِ ونَـبْعِ الحَنَانِ؛ حَيْثُ جَفَّ ذَلِكَ الـمَوْرِدُ العَذْبُ الَّذِي اسْتَمْتَعَ بِهِ الابْنُ أَو البِنْتُ حِيْنًا مِن الدَّهْرِ، أَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهِ وَيَـرْعَى حُقُوْقَهُ قَـبْلَ المفَارَقَةِ وَالمبَايَـنَةِ.

وَكَذَلِكَ حِينَ يَرْحَلُ الأَوْلَادُ، دُوْنَ أَنْ يَرَى الوَالِدُ آمَالَهُ فِيْهِم قَدْ تَحَقَّقَتْ، وَيُفَاخِرَ فِيْهِم الأَقْـرَانَ وَالأَصْحَابَ وَذَوِي القُرْبَى وَالنَّاسَ أَجْمَعِينَ. فَـفَقْدُ الأَوْلَادِ صَدْعٌ في القَلْبِ لَا يَنْجَبِرُ أَمَدَ الدَّهْرِ، ورحيلهم بمثابة رحيل بعض أجزاء الإنسان، فالحسرة تتجدَّد في بَقِيَّة العمر لذكرى هذا الجزء المفقود، فما إن يَسْلُو الوَالِدُ عن وَلَدِهِ الرَّاحِلِ قَلِيْلَاً حَتَّى يُعِيْدَ شُرُوْقُ الشَّمْسِ وَغُرُوْبُهَا وَسَائِرُ الـمَظَاهِرِ مِنْ حَوْلِهِ إِلَيْهِ ذِكْرَى هَذَا الوَلَدِ، فَتَتَجَدَّدُ اللَّوْعَةُ وَاللَّهْفَةُ عَلَى ذَلِكَ الرَّحِيْلِ الـمُرِّ وَالفَقْدِ الـمُؤْلِـمِ.

لِذَا كَانَ رِثَاءُ الوَالِدِ وَالوَلَدِ أَشْجَى الـمَرَاثِي، وَأَصْدَقَهَا، وَأَقْوَاهَا تَأْثِيرًا؛ ذَلِكَ أَنَّ قِيْمَةَ الرِّثَاءِ تَـنْـبُعُ مِنْ صِلَةِ الـمَرْثِي بِالرَّاثِي، فَكُلَّمَا كَان المرْثِي عَزِيْزًا فِي نَفْسِ الشَّاعِرِ اتَّقَدَتْ عَاطِفَتُهُ، وَصَدَقَ فِي تَأَثُّرِهِ، وَتَأَكَّدَ تَأْثِيرُهُ أَكْثَر مِنْ أَنْ يَـرْثِيَ الشَّاعِرُ شَخْصًا يَصْحَبُ رِثَاءَهُ مُجَامَلَةٌ، أَوْ يَشُوْبُهُ طَلَبُ مَنْـفَعَةٍ، وَهَذَا لَا يَكُوْنُ بِحَالٍ فِي رِثَاءِ الوَالِدَيْنِ وَالأَوْلَادِ الَّذِيْنَ هُمْ أَعَزُّ النَّاسِ، وَأَوْلَاهُم بِالبِرِّ وَالوَفَاءِ، وَأَحَقُّهُم عِنْدَ الفَقْدِ بِالحُزْنِ العَمِيْقِ، ثُمَّ إِنَّ الحَالَ النَّفْسِيَّةَ الَّتِي يَكُوْنُ عَلَيْهَا الـمَرْءُ حِينَ يَـفْقِدُ وَالِدَهُ أَوْ وَلَدَهُ تَجِلُّ عَن الوَصْفِ، وتَـعْجِزُ أَنْ تُحِيْطَ بِهَا كَلِمَاتٌ مُعَبِّرةٌ، ويُدْرِكُ هَذَا بِحَقٍّ من مَرَّ بِهَذِهِ التَّجْرِبَةِ، وَأَحَسَّ عند فقد والده أو ولده بِأَنَّ الخُطُوْبَ جَمِيْعَهَا قَد ادْلَـهَمَّتْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ أَمَرّ عَيْشًا ولا أكثر لوعة منه.

ومع هذه القيمة الإنسانيَّة والنَّفسيَّة الكبرى لشعر رثاء الوالدين الأولاد، وما تضمَّنه هذا الشِّعر من قيمة فنِّيَّة عالية زادتها غنىً الأَصَالَةُ التُّراثِــيَّةُ المتَمَثِّلَةُ في أشعار العصور العربيَّة والإسلاميَّة المتقدِّمة - لم تَسْتَهْدِفْ دِرَاسَةٌ عِلْمِيَّةٌ دَقِيْـقَةٌ هَذَا السِّفْرَ الأَدَبِيَّ الخَالِدَ، وَبِخَاصَّةٍ جَانِبُ الصُّوْرَةِ الفَنِّيَّةِ فِيْهِ، فَتَسْبِرُ أَغْوَارَهَا، وَتُفْصِحُ عَنْ سِمَاتِهَا الفَنِّيَّةِ، وَعَنْ مَكانتها الأدبيَّة والنَّقديَّة في العصور المتقدِّمة بخاصَّة، وفي كُلِّ العصور بعامَّةٍ.

وكان هذا من أبرز دواعي اختيار الصُّوْرَةِ الفَنِّيَّةِ فِي شِعْرِ الرِّثَاءِ، وتحديدًا رثاء الوالدين والأولاد، وقد حُدِّدت الدراسة بنهاية القرن الثَّالث الهجريِّ، والطريقة المثلى لهذا النوع من الدراسات هي المقاربة الأسلوبية؛ لتُضيف هذه الدراسة نتائج جديدة تَنْضَمُّ إِلَى الدِّراسات البلاغيَّة النَّقديَّة التي تقوم على التَّوشيج بين المنهج والتَّطبيق. وَلِكُلِّ جُزْئِيَّةٍ مِنْ هَذَا العُنْوَانِ سَبَبٌ أَوْ أَسْبَابٌ فِي هَذَا الاختيار. فالصُّوْرَةُ الفَنِّيَّةُ ومُقَوِّمَاتُهَا اللُّغَوِيَّةُ وَالنَّفْسِيَّةُ وَالجَمَالِيَّةُ مَا تَـزَالُ من الحقول الغنيَّة في الدِّراسات النَّقدية والأسلوبيَّة، فضلاً على أنَّها الجوهر الثَّابت في الشِّعر، الذي يرتبط - كغيره من الفنون الأدبيَّة - بالمشاعر، وينبع من العواطف، التي ينشط فيها التَّصْوِيْـرُ. فَكُلُّ مَا عَدَا الصُّورة من اتِّجاهات، وأساليب، وموضوعات تتغيَّر، ولكن الصُّوْرَةَ بَـاقِيَةٌ رَاسِخَةٌ؛ لأنَّـهَا - كما قيل - قاعدةُ حَيَاةِ الشِّعرِ، وَالمحكُ الرَّئيسيُّ للشَّاعِرِ، ومناطُ تَأَلُّقِهِ(1)، فهي واسطة الشِّعر بما تُشكِّله من علاقات داخليَّة مترتبة على نَسَقٍ خَاصٍّ، أو أُسلُوبٍ مُتَمَيِّزٍ يكشف من خلاله الشَّاعِرُ عن مكنون عقله وقلبه، وَيُـوْصِلُ ما بداخله من مشاعر وأفكار إلى الآخرين عبر أشكال أسلوبيَّة ووسائل تعبيريَّة عديدة.

واختيار شعر الرِّثاء له سَبَبٌ فنِّيٌّ يَتَّصِلُ بالنُّصُوْصِ الأَدَبِيَّةِ الرَّفِيْعَةِ؛ حَيْثُ قِيْمَةُ الشِّعْرِ بِعَامَّةٍ وَالرِّثَاءِ بِخَاصَّةٍ بَينَ الفُنُـوْنِ الشِّعْرِيَّةِ. فَالشِّعْرُ أَصْلٌ بَارِزٌ من كلام العرب، يَسْكُنُ بِهِ الغَيْظُ، وَتَسْلُو بِهِ النَّفْسُ، وتُطْفَأُ بِهِ العَدَاوَةُ وَالفِتْـنَةُ، وَيُعْطَى بِهِ السَّائلُ، ويدلُّ على معالي الأخلاق، وصواب الرَّأي، ومعرفة الأنساب (2)، ثم هو يفتح العَقْلَ، وَيفصح المنطق، وَيُطْلِقُ اللِّسَانَ، وَيَدُلُّ عَلَى المرُوْءَةِ وَالشَّجَاعَةِ "(3)، وهو من أعمدة المفَسِّرِ، وَوَسِيْلَةُ الدَّارس في فَهْمِ القرآن الكريم، وعُدَّةُ مَنْ يَتَفَيَّأُ ظِلَالَ البَيَانِ النَّبَوِيِّ، ويحاول إِدْرَاكَ بَلَاغِةِ سَيِّدِ المرسلين ﷺ.

أَمَّـا شِـعْـرُ الرِّثَـاءِ فـهـو مـن أهـم الأغــراض الشِّعـريَّـة، وأشدِّها وقـعــًا في النَّـفـس، فـقـد عـدَّه أبو عبيدة معمر بن المثنَّى (- 210 هـ) أحسن مناطق الشِّعر (4). وكان بنو أميَّة لا يقبلون راوية الشِّعر إلا أن يكون راوية للمراثي؛ معلِّلين ذلك بأنَّ فيها ذكرًا لمعالي الأمور، وتدل على مكارم الأخلاق. وقد سُئل أعرابيٌّ: ما أَجْوَدُ الشِّعْرِ عِنْدَكُم ؟ قال: ما رثينا به آباءنا وأولادنا. ذلك أنَّا نقولها وأكبادنا تحترق(5). وهذا يَدُلُّ على أنَّه أَصْدَقُ أَنْمَاطِ الشِّعْرِ، وَأَرْفَـعُهَا مَنْزِلَةً.

وتـخصيص الفترة مـن العـصـر الجاهليِّ إلى نـهاية القرن الثَّـالث الهـجـريِّ زمـنًا للـدِّراسـة لـه مـا يبرِّره عند الحديث عن الأصالة والبحث في التُّراث العربيِّ العريق الغني بالسِّمات الفنيَّة والإشارات الدَّالَّة على جماليَّة الشِّعر القديم، وعلى الطور المبكِّر للإحساس بالجمال الفنِّيِّ في البيئة العربيَّة. فالبحث يتَّصل بعصر من عصور النُّضج الأدبيِّ، ومرحلة من المراحل الأولى لتطوُّره وازدهاره؛ بما شهده القَرْنُ الثَّالِثُ الهجريُّ من ظروف سياسيَّة، وأحوال اجتماعيَّة، وحركة علميَّة ساعدت كلُّها على ازدهار أدب الرِّثاء عند العرب، وارتياح كثير من النَّاس في تلك الفترة خاصَّة للتَّعازي والمراثي، واشتداد رغبتهم فيها.

ويضاف إلى هذه الأسباب الدَّاعية إلى اختيار هذا الموضوع أَسْبَابٌ أُخْرَى، من أبرزها:

1 - أنَّه لم يَعْرَ أَحَدٌ - وَلَنْ يَعْرَى - مِنْ مُصِيْبَةِ فَقْدِ وَالِدٍ أَوْ وَلَد ٍ؛ وذلك قَضَاءُ اللّه ۵ على خلقه. فرثاؤهما والعزاء فيهما من أكثر ما تكلَّم النَّاسُ فيه؛ إمَّا مُعَزِّيْنَ، وإمَّا مُتَعَزِّينَ، صَابِرِينَ، مُحْتَسِبِينَ؛ لذا يحسن قِيَامُ دِرَاسَةٍ تُعْنَى بتلك العاطفة الإنسانيَّة الملتهبة، وهي عاطفة الحُزن الذي يتدفَّق من مشاعر صادقة.

2 - الرَّغْبَةُ في سدِّ فجوة من فجوات الدِّراسات البلاغيَّة النَّقديَّة الأدبيَّة فيما يتعلَّق بجانب من جوانب التُّراثِ الشِّعريِّ العَرَبِيِّ القَيِّمِ.

3 - محاولة الدُّخول في عوالم الصُّورة الفنيَّة التي يمكن أن تكون قَلْبَ كُلِّ عَمَلٍ فَنِّيٍّ، وَمِحْوَرَ كُلِّ نِقَاشٍ نَقْدِيٍّ، فهي تضع دارسها في عَالَمٍ شِعْرِيٍّ آخَرَ غَيرِ الذي كان يعرفه، فَتُعَرِّفُهُ عالَـمًا تذوب فيه ظواهر الأشياء الشكليَّة الـمحدودة، لتنقلب أوضاعًا فكريَّة روحيَّة لا يمكن تحديدها، أو تقييد حريتها، فلا يبقى الشِّعْرُ زخرفًا جميلاً، وإنَّـمَا يَتَحَوَّلُ إلى تَلْوِينٍ دَاخِلِيٍّ عَمِيْقٍ يُسْتَثَارُ بالكلمة والصُّورة والإيقاع(6).

4 - ضرورة الكشف عن التَّباينات والسِّمات المميِّزة لشعر رثاء الوالدين والأولاد في عِدَّةِ اتجاهات؛ الفرق بين رثاء الوالد والولد عند الشَّاعر الجاهليِّ ورثاؤهما عند الشَّاعر في العصر الإسلاميِّ، ورثاء الشَّاعر لأبيه وما يميِّزه عن رثائه لأمِّه، وما يميِّز رثاء البنت لأبيها عن رثاء الابن لأبيه أو أُمِّه، وكذلك الفروق بين رثاء الوالد والولد، والفرق بين رثاء الوالد للبنين ورثائه للبنات، والشَّأن في رثاء المرأة للمرأة.

5 - أهميَّة الوصول إلى تصوُّرٍ متكاملٍ عن رثاء الوالدين والأولاد في الشِّعر القديم من النَّاحيتين الموضوعيَّة والفنيَّة.

ويهدف البحث إلى جملة من الأهداف، مِن أهمِّها:

1 - إِثْـرَاءُ الـمَكْتَبَةِ العَرَبِيَّةِ بِـمُؤَلَّفٍ أَدَبِيٍّ بَلَاغِيٍّ نَـقْدِيٍّ تَطْبِيْقِيٍّ مُهْتَمٍّ بِمَوْضُوْعٍ إِنْسَانِيٍّ نَفْسِيٍّ، وَمَعْنِيٍّ بِالتُّرَاثِ العَرَبِيِّ الأَصِيْلِ، يكون لبنة من لبنات الأدب والبلاغة والنَّقد، يفيد منه أبناءُ الجيل الحاضر والمستقبل، ويربطهم بتراث أمَّتهم، ويكشف لهم ضروبًا من الوفاء البشريِّ، بل أعظم تلك الضُّروب وأجملها، ويعرض عليهم شعرًا أصيلاً ذا معانٍ شريفة، وغايات سامية.

2 - إضافة حلقة جديدة مِنْ حلقات دراسة الصُّورة الفنِّية في نصوص الشِّعر العربيِّ القديم، والسَّعي إلى إجلاء الغموض حول الصُّورة لما لها مِنْ قِيْمَةٍ كبرى تُعِينُ في الكشف عن معالم شِعْرٍ تجسَّدت فيه العاطفة الصَّادقة، وارتسمت في مضامينه ملامح الحب والوفاء، مرتدية حُلَّةً سِيَرَاء تليق بمقام الوالد والولد وبمحبتهما.

3 - محاولة إحياء أَلْفَاظٍ وَتَرَاكِيْبَ وَصُوَرٍ وَنُصُوْصٍ أَصِيْلَةٍ طَالَـهَا النِّسْيَانُ، وَغَمَرَهَا الانْشِغَالُ بِمَا هُوَ حَدِيْثٌ مَشْهُوْرٌ، أَوْ قَدِيْمٌ مَكْرُوْرٌ، خاصَّة أنَّ تلك الألفاظ والتَّراكيب والصُّور والنُّصوص الأصيلة نَابِعَةٌ مِنْ شَاعِرٍ مَكْلُوْمٍ، فجعته المصِيْبَةُ، فَجَادَتْ قَرِيْـحَتُهُ بِـمَكْنُونِهَا الـمَعْرِفِيِّ البَدِيْعِ.

4 - الإسهام في إعادة دراسة البلاغة العربيَّة والنَّقد الأدبيِّ إلى مهدهما الأوَّل، وهو الأدب بنصوصه الجميلة، خاصَّة القديمة منها، ومحاولة العودة بهما إلى المنهج الأدبيِّ الذي يُحَكِّم الذَّوقَ الموضوعيَّ في دراسة النُّصوص دراسة أسلوبيَّة، ويتخفَّف من القواعد النَّظريَّـة لا سيَّما ذات البُعْدِ المنطقيِّ الجاف.

5 - جمع ما يمكن جمعه مِن شعر رثاء الوالدين والأولاد في فترة زمنيَّة لم يَعْرِفْ أَوَّلُـهَا التَّدْوِينَ.

6 - تسلية المكلومين والمفجوعين بفقد والديهم أو أولادهم، من خلال عرض نماذج مشابهة لأحوالهم، وإطلاعهم على نظرات الأوائل إلى الحدث الأليم، وطرائقهم في التَّعزِّي والتَّسلِّي.

وقد نشطت الدِّرَاسَاتُ حَوْلَ شِعْرِ الرِّثَاءِ قَدِيمًا وحديثًا، وهي إِمَّا دراسات نظريَّة عامَّة عَرَضَ بعضُها شيئًا من نصوص الرِّثاء، وحلَّل بَعْضُهَا الآخَرُ نُصُوْصَهُ بِصُوْرَةٍ مُوْجَزَةٍ مُقْتَضَبَةٍ، وَإِمَّا دراسات تناولت شِعْرَ رِثَاءِ الأُمِّ، أو الأولاد، أو الأقارب عمومًا في فترات زمنيَّة محدَّدة، وكان التَّناول في المقام الأوَّل والأبرز يتَّجه إلى جوانب موضوعيَّة. وعلى الرَّغم من أنَّ هذه الدِّراسات ذات قيمة أدبيَّة، وأفادت البحث في تحقيق معظم أشعار الرِّثاء وتوثيقها، فهي لم تلتفت التِفَاتَةً خَاصَّةً لشعر رثاء الوالدين والأولاد معًا، ولم تتعمَّق في تحليل قِيَمِ هذا الرِّثاء الفنيَّة والسِّمات التَّصويرية التي تكشف عنها الصُّوْرَةُ الفَنِّيَّةُ؛ لذا كانت دراسة الصُّوْرَة الفَنِّيَّة فِي شِعْرِ رِثَاءِ الوالدين والأولاد إلى نهاية القرن الثَّالث الهجريِّ بِكْرًا فِي بَابِهَا، وَلَم يَسْبِقْ إِلَيْهَا أَحَدٌ على حَدِّ عِلْمِي إِلَى لَحْظَةِ الانتهاء من هذه الدراسة، مع أنَّ هذا الشِّعْرَ يحمل مَعَانِيَ رَاقِيَةً، وقِيَمًا عَالِيَةً، ويتميَّز بسمات فنيَّة تحتاج إلى التجلية، ولعلَّ هَذه الدراسة تُحَقِّقُ ذلك بإذن اللّه.

وتعتمد هذه الدِّراسة مَنْهَجًا يمزج بين العلميَّة التي تفرضها طبيعة البحوث الأكاديميَّة، والاستقراء الأدبيِّ الموضوعيِّ، والتَّحليل الفنِّي الذي تستدعيه نوعيَّة الدِّراسة، فهي دراسة في الصُّورة الفنيَّة تشمل الدِّراسة البلاغيَّة النَّقديَّة، والبواعث النَّفسيَّة والاجتماعيَّة للصُّورة، مع الإفادة من المنهج الأسلوبيِّ الذي يتميَّز بالقُدرة على تتبُّع الخصائص الدَّقيقة للنَّصِّ الشِّعريِّ بمستوياته المختلفة والمتعدِّدة بصورة موضوعيَّة تنأى عن الانطباع والذاتيَّة، إلى جانب تميُّزه بالقُدْرَةِ على المزج بين الحديث والأصيل، فهو وإن ظهر منهجًا عصريَّـا يأخذ من النَّظريَّات الحديثة فهو يقوم على علوم اللُّغة المختلفة التي أَسَّسَ لها العُلَمَاءُ العَرَبُ الأَوَائِلُ، وورَّثوا فيها ذَخَائِرَ يَنْتَفِعُ بِهَا ذَوُو البَصَائِرِ.

وقد التزم البَحثُ مَنهجيَّةً مُحَدَّدةً في عرض الفِقَرِ والشَّواهد والمسائل، فالعرض - بناء على العنوان - يكون أوَّلاً لشعر رثاء الوالدين وَفْقَ التَّسلسل الزَّمني ما أمكن، إلا إن كان هذا يقطع الفكرة، أو يعوق عرض المسألة، ثم يتلو ذلك عرض شعر رثاء الأولاد وَفْقَ ترتيب وفيات الشُّعراء؛ الأقدم فالأحدث، وكل هذا مشروط بتسلسل الأفكار واتصال بعضها ببعض، وغاية ذلك سبر أغوار التَّطوُّر في الفكرة، ونمو تصويرها فنِّيَّـــًا عبر التَّأريخ، والتَّباين أو التَّوافق بين شعر رثاء الوالد وشعر رثاء الولد، مع الحرص على تأصيل المسائل والأفكار، ونسبة الأقوال والآراء إلى أصحابها، وحفظ حقِّهم في ذلك، فضلاً على التَّحقُّق من صحَّة رواية الأبيات، ودقَّة ذكر أسماء الأشخاص والمواقع وغيرها.

وَتَنْتَظِمُ خُطَّةُ البَحْثِ فِي مُقَدّمَةٍ، وتمهيد، وخمسة فصول تتلوها خاتمة، فثبت المصادر والمراجع.

أمَّا التَّمهيد فيتناول أمرين، أوَّلهما: مفهوم الصُّورة الفنيَّة في البلاغة والنَّقد قديمًا وحديثًا عند العرب، وثانيهما: لمحة عن شعرِ الرِّثاء عمومًا، وطبيعته في الجاهليَّة وصدر الإسلام إلى نهاية القرن الثَّالث الهجريِّ خصوصًا.

وأمَّا فصول البحث، فيختصُّ الفصلُ الأوَّلُ بالحديث عن مصادر الصُّورة الفنيَّة؛ وذلك من خلال ثلاثة مباحث، يتناول المَبْحَثُ الأَوَّلُ المصدَرَ الدِّيْنِيَّ، ويعرض للصُّور التي استلهمها شُعَرَاءُ الرِّثَاءِ من معتقداتهم وأديانهم، ومصادرهم الدِّينيَّة، وبالأخص أهم مصدرين من مصادر التَّشريع الإسلاميِّ، وهما القرآن الكريم والحديث النَّبويُّ الشَّريف.

ويتناول المَبْحَثُ الثَّانِي من هذا الفصل المصدَرَ الثَّاني من مصادر الصُّورة الفنيَّة، وهو التُّرَاثُ العَرَبِيُّ، وَشَملَ أَنْـمَاطًا مُخْتَلِفَةً، من أبرزها: التُّرَاثُ الشِّعْرِيُّ، وَالتُّرَاثُ اللُّغَوِيُّ، وَالتُّرَاثُ التَّأْرِيْخِيُّ. ويستقلُّ المبحث الثَّالث بالحديث عن المصدر الثَّالث من مصادر الصُّورة الفنيَّة، وهو البيئة التي تتنوَّع بين البيئتين الاجتماعيَّة والطبيعيَّة بنوعيها: الحيِّ المتحرِّك، والصَّامت السَّاكن.

وَيُبْرِزُ الفَصْلُ الثَّانِي مِنَ البَحْثِ وَسَائِلَ رَسْمِ الصُّوْرَةِ، ويتضمَّن الحَدِيْثَ عن فنون البيان (التَّشبيه والمجاز والكناية)، وما يتفرَّع عنها من أقسام وألوان وأدوات تصويريَّة.

وَيُخَصِّصُ البَحْثُ الفَصْلَ الثَّالِثَ مِنهُ لِلحَدِيثِ عَن أَنوَاع الصُّوْرَةِ التي تنقسم إلى قسمين، لكلِّ قسم مبحث. فالمبحث الأوَّل من هذا الفصل خاصٌّ بالصُّور الحسيَّة والمعنويَّة، والمبحث الثَّاني منه خاصٌّ بالصُّور الجزئيَّة والكليَّة.

أمَّا الفصل الرَّابع فيعرض فيه البَحْثُ وَظَائِف الصُّوْرَةِ، وينتظم في ستة مباحث؛ المبحث الأوَّل: البيان والتَّوضيح، والمبحث الثَّاني: تعميق المعنى، والمبحث الثَّالث: الإقناع والتَّعليل، والمبحث الرَّابع: التَّشخيص والتَّجسيد، والمبحث الخامس: الإثارة والإدهاش، والمبحث السَّادس: التَّحسين والتَّقبيح.

وختام هذه الفصول هو الفصل الخامس الذي يهدف إلى إبراز السِّمات المميِّزة والخصائص التي تفرَّدت بها المعاني في صورة الرِّثاء، وهي أهم عناصر التشكيل، وأقواها حضورًا، وأميزها دلالةً، وأشدها تأثرًا بالموقف والسياق والحال والمقام.

وَتَعْقُبُ هَذِهِ الفُصُوْلَ خَاتِمَةُ البَحْثِ، وتشتمل على خلاصته، ونتائجه، وتوصياته، ثم ثبت المصادر والمراجع، ففهرس المحتويات والموضوعات.

ولم تكن أشعار رثاء الوالدين والأولاد التي كانت مَادَّةَ هَذَا البَحْثِ مَجْمُوْعَةً فِي مَصْدَرٍ وَاحِدٍ، وَلَا فِي مَصْدَرَيْنِ، وَإِنَّما كانت مُتَنَاثِرَةً بَينَ عَدَدٍ مِن المصَادِرِ المختلفة المصنَّفة في علوم شتَّى وَأَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وأغنى تلك المصادر كُتُبُ المجموعات الشِّعرية، ودواوين الشُّعراء، وأشعار القبائل، ومن بعدها كتب التَّراجم، والسِّير، والأنساب، والبلدان، والتَّأريخ وغيرها. واستعنتُ في تحليل أشعار الرِّثاء ومعالجتها فنيَّـــًا بمراجع متنوِّعة ما بين قديمة وحديثة، منها اللُّغَوِيُّ والأَدَبِيُّ والنَّقْدِيُّ، كالمعاجم وشروح المجموعات الشِّعريَّة، والكُتُبِ المصَنَّفَةِ فِي الصُّوْرَةِ الفَنيَّةِ سواء أكانت طبيعتها نظريَّة أم تطبيقيَّة، وَغَيرُ الأَدَبِيِّ وَالنَّقدِيِّ، كَكُتُبِ التَّفسير، وشروح الأحاديث، وغيرها.

ولم تكن هذه الدِّراسةُ لِتَرتَضِيَ من المصادر والمراجع إلا الأَصِيْلَ مِنْهَا عند ورود شعر الرِّثاء في أكثر من مصدر. فتوثيق مادة الدِّراسة وتحليلها فنيَّــــًا يعتمدان على ما ورد في كتب المتقدِّمين، ولا يؤخذ بما في كتب المتأخرين إلا في حال التَّفرُّد بذكر شاهد أو مسألة، والإشارة الفارقة إليهما، والإضافة الغنيَّة فيهما. وممَّا التزمت به الدِّرَاسَةُ؛ تَتْمِيمًا لبيان المنهج ما يلي:

1. افتتاح المباحث بتوطئة موجزة تكون مدخلاً للأسلوب البيانيِّ الـمُزْمَعِ دِرَاسَته دِرَاسَةً فَنِّيَّةً.

2. السَّعي إلى محاولة استيعاب أكبر قدر ممكن من الأساليب وأنماطها ودرجاتها الفنيَّة، وكذلك المعاني والمشاهد والموضوعات لتحقيق طابع الشُّمول في هذه الدِّراسة، واستهداف الدِّقة والعُمق في التَّحليل والنَّتائج، وهذا من أسباب الإطالة والإطناب في بعض الفصول والمباحث.

3. كتابة الآيات القرآنيَّة برسم المصحف الشَّريف.

4. ضبط الكتابة بالشَّكل ما أمكن، وبخاصَّة الأبيات الشِّعريَّة وسائر النُّصوص المأثورة.

5. ذكر تواريخ وفيات الأعلام بعد الاسم مباشرة في متن البحث.

6. ترجمة بعض الأعلام المغمورة تَـرْجَمَةً مُوْجَزَةً، والإشارة إلى أبرز ما اشتهر به العَلَمُ.

7. شرح الغريب من الألفاظ في الأبيات خاصَّة، وفي سائر النُّصوص عامَّة، ويكون الشَّرح في الأعم الأغلب في هامش الصَّفحات؛ وغاية ذلك إِيْجَادُ نَوْعٍ مِنَ الأُلْفَةِ الـمُبَاشِرَةِ بَينَ النَّصِّ والمتلقِّي.

8. عند التَّوثيق يُذْكَرُ المصْدَرُ أو المرْجِعُ الأَقْدَمُ فَالأَحْدَثُ بِالاعتماد على تاريخ سَنَةِ وَفَاةِ مُؤَلِّفِهِ؛ رِعَايَةً لِلأَصَالَةِ وَإِبْرَازًا لِلتُّراثِ القَيِّمِ، وَحِفْظًا لِـحَقِّ الـمُتَـقَدِّمِ.

9. عند الإحالة إلى بعض المصادر أو المراجع قد يضطر البَحْثُ إِلَى تكرار اسم المؤَلِّفِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُذْكَرُ فِيْهِ اسْمُ الكِتَابِ؛ للاحتراس من اللَّبس؛ حيث تشترك بعض المصنَّفات بالاسم ولا يميِّزها إلا اسمُ مؤلِّفِهَا، كخزانة الأدب مثلاً، فَيَذْكُرُ البَحْثُ هكذا: خِزَانَةَ الأَدَبِ للبَغْدَادِيِّ، وَخِزَانَةَ الأَدَبِ للحَمَوِيِّ، وكذلك كتاب الكـامـل للمـبرِّد الذي قد يلتبس بكتاب الكامل في التَّـأريـخ لابـن الأثـير، ومثلهما ما يكون من المصنفات مسمَّى باسم عِلْمٍ، كعلم البيان، أو علم البديع، أو باسم مجال معرفي كالنَّقد الأدبيّ، ونحو ذلك.

ولم تكن رحلة هذا البحث سَالِمَةً من العقبات والصُّعوبات التي اعترضته، فحسبه تلك الـهيبة التي تغشى الباحث حين يقصد دراسة أقدم صور الشِّعر العـربيِّ النَّـاضـجـة في الـتَّـأريخ، ولا سيَّما الشِّعر الجاهليِّ وشعر صدر الإسلام إلى نهاية القرن الثَّالث الهجريِّ؛ لِمَا بلغت الدِّراسة في تلك الفترة من الكم والكيف من جهة، وللتَّداخل بين سماتها الفكريَّة والفنيَّة من جهة أخرى، فلم يحظ فَنٌّ في الأدب العربيِّ بالبحث والدِّراسة مثلما حظي به الشِّعر في تلك الفترة، فكلُّ دراسة فيه تكشف عن مظاهر إبداع جديدة، تسهم في توكيد تفرُّده، وإثبات علوِّ كعبه، وتقرير سلطان جماله الذي يملك وجدان المتلقِّين، ويثبت السَّطوة على أحاسيسهم.

ومن المعوِّقات أيضًا أنَّ مادَّة الدِّراسة واسعة وكثيرة، ولم يكن أكثرها قد حظي بالتَّدوين؛ لكونها نتجت في عصور تعتمد الرِّواية، واستمرَّ جزءٌ منها متباين الرِّوايات، ويشكو الشَّتات، وقسط كبيرٌ منه قد توزَّع بين المصنَّفات.

وقد هيأ الله ۵ بفضله وكرمه تجاوز هذه العقبات والصُّعوبات، ووفَّق إلى الاستعانة به على تحمُّل المشقَّات والتَّغلُّب على المعوِّقات، واستدفاع العجز والكسل والآفات، فله الحمد الجزيل أوَّلاً وآخرًا على ما يسَّر في هذه السَّبيل، وله الحمد على ما حقَّق من النَّجاح والإنجاز حمدًا سابغًا صادقًا يوافي نِعَمَه، ويليق بجلاله وعظيم سلطانه.

ولا يفوت الاعتراف بالفضل لأهله الحقيقين بالشُّكر والثَّناء والعرفان؛ حيث كان لهم الأَثَرُ الكَبِيرُ فِي ظُهُوْرِ هَذِه الدِّراسة لِلعِيَانِ، بَعْدَ الجَهْدِ رَجَاءَ التَّحْبِيرِ وَالإِحْسَانِ حَتَّى استوت على سوقها. وفي مقدّمة هؤلاء مؤسستي العلميَّة العريقة جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة؛ ممثَّلةً في كليَّة اللُّغة العربيَّة، وقسم البلاغة والنَّقد ومنهج الأدب الإسلامــيِّ على إتاحــة الفرصــة للدِّراســة ومواصلـة البحـث في أشـرف العلـوم (علوم اللُّغة العربيَّة).

ثم أخصُّ بالشُّكر السَّابغ، والثَّناء العاطر أستاذي الفاضل الأستاذ الدكتور صالح بن محمَّد الزَّهرانيَّ الذي تفضَّل بالإشراف على هذه الدِّراسة، فكان نعم الـمُوَجِّهُ الـمُعِينُ، وَخَير المشرف الأمين، فقد رعاها مُنْذُ أَنْ كَانَ فِكْرَةً، وَأَرْشَدَ فِي مَسِيرَتِهَا خُطْوَةً خُطْوَةً، فكانت مَلْحُوْظَاتُهُ وَتَوْجِيْهَاتُهُ مُعِيْنَةً وَمُشَجِّعَةً عَلَى تَذْلِيْلِ مَا تَعَثَّرَ، وَتَسْهِيْلِ مَا تَوَعَّرَ، فَلَنْ أَنْسَى لَهُ عَظِيْمَ فَضْلِهِ، وَسَعَةَ صَدْرِهِ، وَكَرِيْمَ خُلُقِهِ. أَبْقَاهُ الله ۵ سَالِـمًا في جِسْمِهِ، مُعَافىً في بدنه، مسرورًا بأيَّامه، مبتهجًا بزمانه، وَمَنَّ عَلَيْهِ بِطُوْلِ الـمُدَّةِ، وَتَتَابُعِ النِّعْمَةِ، وَتَوَّلَى حِفْظَهُ، وَزَادَ مِن العِلْمِ والعَمَلِ الصَّالِحِ حَظَّهُ، فجزاه عنِّي خَيرَ الجَزَاءِ.

كما لا يفوتني تَقْدِيْمُ الشُّكْرِ وَالعِرْفَانِ إلى لجنة المناقشة التي تكرَّمت وتفضَّلت بتقويم الدراسة وتحكيمها، والشكر موصول إِلَى كُلِّ مَنْ مَدَّ يَدَ العَوْنِ وَالـمُسَاعَدَةِ، وَمَنْ أَسْدَى إِلَيَّ نَصِيْحَةً، أَوْ رَأْيًا، أَوْ تَوْجِيْهًا، أَوْ سَانَدَ بِسُؤَالٍ وَتَشْجِيْعٍ، أَوْ بِدَعْوَةٍ صَادِقَةٍ.

وَلَا أَنْسَى فَضْلَ أُنَاسٍ يَعْجِزُ اللِّسَانُ عَنْ شُكْرِهِم وَالدُّعَاءِ لَهُم بِالجَزَاءِ الأَوْفَى فِي الآخِرَةِ وَالأُوْلَى، وَأَوَّلُ أُولَئِكَ النَّاسِ وَأَوْلَاهُم وَالِدِي الغَالِي الذي قَدَّمَ مَا فِي وِسْعِهِ في التَّربِيَةِ وَالتَّشْجِيْعِ، وَكَانَ المثل المحتذى في الإصرار والجد والاجتهاد، وبذل الغالي والنَّفيس للوصول إلى الغاية المنشودة والأماني المعقودة. ثم زوجتي الكريمة وأولادي الأعزَّاء الذين صبروا وصابروا حتَّى رأت هذه الدِّراسةُ النُّورَ، فجزاهم الله عنِّي جميعًا خيرًا، وجمعني بهم في الفردوس أعلى الجنَّة.

كما لا أنسى رَفْعَ دَعَوَاتٍ صَادِقَةٍ لِأُمٍّ قَدْ غَابَتْ شَمْسُهَا الشَّارِقَةُ، فلم أهنأ بها في الحياة بِطُوْلِ عِشْرَةٍ، وَلَم تُرْوَ العينُ مِنْهَا بِكَثِيرِ نَظْرَةٍ، وَاخْتَارَ لَـهَا العَزِيزُ الرَّحِيْمُ جِوَارَهُ حِينَ أَيْنَعَتْ مِنْ عُمُرِهَا أَزْهَارُهُ. تَغَمَّدَهَا الله بِوَاسِعِ رِضْوَانِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهَا شَآبِيْبَ رَحَمَاتِهِ، إِنَّهُ سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ.

وأخـيرًا، فَـقَـدْ بَــذَلْتُ في هـذه الدِّراسة الوَقْتَ وَالـجُهْدَ، واسْتَفْـرَغْـتُ فِيْهَا الوِسْـعَ وَالطَّـاقَــــةَ، وَلَا أَدَّعِـــي فِيْهَــا الكَمَـــالَ وَتَمَــــامَ الإِحْسَـــانِ، فَإِنْ كَـــانَ ثَمَّـــةَ تَجْوِيْـــدٌ وَتَـوْفِيْـقٌ ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾(7)، فالحمد للّه على تفضُّله وإنعامه، فهو ذو الفضل العظيم، وإن كان فيها خلاف ذلك فما أَنَا إِلَّا بَاحِثٌ مُجْتَهِدٌ يُحْمَدُ لَهُ اجْتِهَادُهُ. وَآخِرُ دَعْوَاي أَن الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

كتبه / محمَّد بـن أحمد الخضيـر

الرياض العامرة - ربيع الأوَّل 1437 هـ

(1) اللُّغة الفنِّيَّة (تعريب وتقديم) لمحمَّد حسن عبد اللّه: 45، دار المعارف، (د.ت).

(2) العُمدة في محاسن الشِّعر وآدابه ونقده لابن رشيق: 1/28، تحقيق محمَّد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط: 5

(3) ديوان المعاني لأبي هلال العسكريِّ: 1/111، شرحه وضبط نصَّه أحمد حسن بسج، دار الكتب العلميَّة، بيروت.

(4) المحاسن والمساوئ للبيهقيِّ: 2/34، مطبعة السَّعادة بمصر، 1325 هـ.

(5) ينظر: المحاسن والمساوئ: 2/34 - 35، وبعض هـذه العبارات في البيان والتَّبيين للجاحظ: 2/320، تحقيق وشرح

عبد السَّلام محمَّد هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الخامسة، 1405 هـ - 1985 م.

(6) ينظر: الصُّورة الفنيَّة في النَّقد الشِّعريِّ لعبد القادر الربَّـاعي: 9 - 10، دار العلوم للطباعة والنَّشر، الرِّياض، ط: 1

(7) هود: 88

التَّمْهِيْدُ وَيَشْمَلُ

• أولاً : مَفْهُوْمَ الصُّوْرَةِ الفَنِّيَّةِ

• ثانيًا : لَمْحَةً عَنْ شِـعْرِ الرِّثَاءِ حَتَّى نِهَايَةِ القَرْنِ الثَّالِثِ الهِجْرِيِّ

أولاً: مَفْهُوْمَ الصُّوْرَةِ الفَنِّيَّةِ

يَحْسُنُ فِي مُقَدّمَةِ الحَدِيْثِ عَنْ مَفْهُوْمِ الصُّوْرَةِ الفَنِّــيَّةِ الوُقُـوْفُ عَلَى المعْنَى اللُّغَوِيِّ لِكَلِمَةِ صُوْرَة؛ ليتسنَّى رَبْطُهُ بِالمعْنَى الاصْطِلَاحِيِّ لِهَذِهِ الكَلِمَةِ.

المَعْنَى اللُّغَوِيُّ

الصُّوْرَةُ فِي لُغَةِ العَرَبِ لَهَا دلَالَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَهيَ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ، مِنْـهَا: الشَّكَلُ وَالنَّوْعُ وَالصِّفَةُ وَالحَقِيْـقَةُ وَالخَلْقُ وَالهَيْـئَةُ. جَاءَ فِي القَامُوْسِ الـمُحِيْطِ: الصُّوْرَةُ، بِالضَمِّ: الشَّكْلُ...، وَتُسْتَـعْمَلُ الصُّوْرَةُ بِمَعْنَى النَّـوْعِ وَالصِّفَةِ(1). وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى هَذِهِ المعَانِي حِيْنَ وَرَدَ لَفْظُهَا فِي القُرآنِ الكَرِيمِ، والحَدِيْثِ الشَّرِيْفِ، وَالشِّعْرِ العَرَبيِّ القَدِيْمِ. ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(2). والمعنى: يخلقكم في الأرحام كيف يشاء مِنْ ذكر وأنثى، وحَسَنٍ وقَبِيْحٍ، وسليم وعليل، وشقيٍّ وَسَعِيْدٍ، وغير ذلك مِن الاختلافات(3). فهو تصوير بمعنى الخلق والإيجاد على نوعٍ معيَّن وصفة معيَّنة. ويكون التَّصوير بمعنى تشكيل الهيئة كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾(4). فالله ۵ لـمَّا خَلَقَ الخَلْقَ في الهيئة التي أرادها شَكَّلَ تِلْكَ الهَــيْـئَةَ أَبْدَع تَشْكِيْلٍ، وَأَحْسَنَ تَـقْوِيْمٍ.

ومِنْ أَسْمَاءِ الله ۵ المصَوِّرُ، ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(5). فَالله ۵ هُوَ الخـَالِقُ الموْجِدُ عَلَى الصِّفَةِ وَالهَيئَةِ اللَّتَيْنِ يُرِيْدُهُمَا. قال الإمام ابن كثير - في معنى هذه الآية: أي: الذي إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون على الصِّفة التي يريد، والصُّـورة التي يختار، كقوله: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾(6)؛ ولهذا قال: ﴿الْمُصَوِّر﴾، أي: الذي ينفذ ما يريد إِيْجَاده على الصِّفة التي يريدها(7).

وَصُوْرَةُ كُلِّ مَخْلُوْقٍ هِيَ هَيْئَةُ خِلْقَتِهِ(8). ﴿اللُه الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اْلَأرْضَ قَـرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(9)، وَقَالَ: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾(10). فاللّه ۵ أنعم على عباده بِأَنْ أَحْسَنَ أَشْكَالَهُمْ، فجعل خِلْقَتَهم على أحسن تقويم وأجمل هيئة(11). وفي الحديث الصَّحيح عن أبي هريرة عن النَّبي ﷺ أنَّه قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَـنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَـنْظُرُ إِلَى قُـلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ (12)، أي: لا ينظر اللّهُ ۵ يوم القيامة إلى أَشْكَالِ العِبَادِ، وَهَيْـئَاتِهِم الظَّاهِرَةِ وَأَمْوَالِهِم، ولكن ينظر إلى مَا وَقَرَ في قلوبهم، واستكن فيها، وَمَا عَملوا مِنْ أَعْمَالٍ فيجازيهم عليها.

فَالصُّوْرَةُ ترد في كلام العرب على ظاهرها، وعلى معنى حَقِيْقَةِ الشَّيءِ وَهَيْئَتِهِ، وعلى معنى صِفَتِه. يقال: صُـوْرَةُ الفِعْلِ كذا وكذا، أَي: هيئته، وصُورةُ الأَمرِ كذا وكذا، أَي: صِفَتُه...(13). وهي عند الشَّرِيْفِ الـجُرْجَانِيِّ (- 816 هـ) الصُّوْرَةُ الجِسْمِيَّةُ، وَالصُّوْرَةُ النَّوْعِيَّةُ(14).

وَقَدْ وَرَدَتْ جُمْلَةُ أَحَادِيْثَ نَبَوِيَّةٍ صَحِيْحَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى كَلِمَةِ صُـوْرَة بمعنى: الشَّكْل الحسِّيّ، والهيئة، والصِّفة.

أَمَّا فِي الشِّعْرِ العَرَبِيِّ القَدِيْمِ فَمِنْهُ البيت المنسوب إلى زُهَيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى في معلَّقته، الذي يقول فيه:

لِـسَانُ الفَتَى نِصْفٌ ونِصْفٌ فُــــــؤَادُهُ فَـلَـمْ يَـبْقَ إلا صُوْرَةُ اللَّحْمِ وَالـدَّمِ(15)

ويريد بـكلمة صُوْرَة: الشَّكْلَ الْمَحْسُوْسَ الخَالِيَ مِن القِيْمَة، أي: أنَّ الفَتَى شَطْرَانِ لِسَانٌ وَجَنَانٌ، وما عدا ذلك فهو عَرَضٌ لَا قِيْمَة لَهُ، وَلَا مُعَوَّل عَلَيْهِ.

وَالصُّوْرَةُ تُطْلَقُ أيضًا على مُمَاثَلَةِ الشَّيءِ ومشابهته. يقال: تَصَوَّرْتُ الشَّيءَ: توهَّمتُ صورتَه فتصوَّر لي. والتَّصاوِيرُ: التَّماثيلُ (16). وتصوير الشَّيء وتمثيله قد يكون مشاهدًا بالعين كالرَّسم بالأصباغ، والنَّحت بالأحجار والأخشاب، ونحوها، وقد يكون مسموعًا وَمُدْرَكًا بالفِكْر؛ وذلك بتأليف الكلام، ونظم ألفاظه في تراكيب. وهذا المدلول اللُّغويُّ هو ما حصر به النَّقْدُ اليُوْنَانِيُّ القَدِيْمُ تَفْسِيرَهُ لِلصُّوْرَةِ. فأفلاطون فسَّر الصُّورةَ بأنَّها ذلك الشَّيءُ الْمُشَابِهُ لغيره شبهًا كبيرًا، أي: تَقْلِيْد الشَّيءِ، ثم وَسَّعَ أرسطو هذا التَّفسير ليتجاوز التَّقْلِيْدَ إلى إِمْكَانِيَّةِ التَّصرُّفِ فِي الصُّوْرَةِ بِإِبْرَازِ جَوَانِب الحُسْنِ فيها إنْ رَغِبَ الْمُبْدِعُ فِي تَحْسِيْنِهَا، وَبِإِبْرَازِ جَوَانِبِ القُبْحِ فِيْهَا إِنْ رَغِبَ فِي تَقْبِيْحِهَا(17). ويقترب هذا المفهوم مِن المعنى الاصطلاحيِّ للصُّوْرَةِ الفَنيَّة.

المَعْنَى الاصْطِلَاحِيُّ

الصُّوْرَةُ الفَنيَّةُ عُنْصُرٌ مُهِمٌّ وَأَصِيْلٌ فِي البِنَاءِ الشِّعريِّ قَدِيْـمًا وَحَدِيْثًا، فهي ليست وليدة اليوم، كما أنَّها لم تقف جامدة عن التَّطوُّر والحركة بعد اكتشافها ومعرفة قيمتها؛ لذا سيكون الحديث عن معناها الاصْطِلَاحِيِّ مُفصَّلاً في طُوْرَيْنِ تَأْرِيْخِيَّينِ (قَدِيْمٍ، وَحَدِيْثٍ)، يَحْمِلُ كُلُّ طَوْرٍ مَفْهُومًا خَاصَّــًا للصُّوْرَةِ:

أ - مُصْطَلَحُ الصُّوْرَةِ فِي النَّقْدِ العَرَبِيِّ القَدِيْمِ:

اهْتَمَّ النَّقْدُ العَرَبيُّ القَدِيمُ بِالصُّوْرَةِ، وَتَفَاوَتَتْ دَرَجَةُ الاهْتِمَامِ بَينَ إِشَارَاتٍ، وَلَمَحَاتٍ يَسِيْرَةٍ، وَعَابِرَةٍ، وَبَينَ إِدْرَاكٍ وَوَعْيٍ عَمِيْقَينِ لِطَبِيْعَةِ الصُّوْرَةِ، وَأَثَرِهَا في النَّصِّ الأَدَبِيِّ مَعَ اهْتِمَامٍ بِالنَّوَاحِي الفَنِّيَّةِ وَالجَمَالِيَّةِ فِــيْهَا.

وَهَذَا يَدْحَضُ، ويُفَنِّدُ المزَاعِمَ التي تَرْمِي الأَدَبَ العَرَبِيَّ القَدِيْمَ بِالفَقْرِ في صُوَرِهِ، بل هو حَافِلٌ بالصُّوْرَةِ الفَنِّـيَّةِ في اتـجاهها الأَوَّلِ، وهي تلك التي تحفل برسم المشَاهِدِ الطَّبَعِيَّةِ، ووصفها وصـفـــًا يُــلِـمُّ بِـكُـلِّ دقـائـقـها وأبـعـادهـا. وقـد أشـار بـعـضُ الـدَّارِسِـين في هَـذا الصَّـدَدِ إِلَى تَـفْـضِـيْـلِ أُمِّ جندب شِعْرَ عَلْقَمَة غريم زوجها على شعر زوجها امرئ القيس، كما لم يغب عِيَارُ الصُّوْرَةِ عَن النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ في الموقف الشَّهير حين نَقَدَ نصًا شعريَّاً لحسَّان بن ثابت (18).

لقد كانت الصُّورةُ دائمًا مَوْضِعَ اعتبار في الحكم على الشَّاعِرِ في الدِّراسات النَّقديَّة العربيَّة القديمة وإن لم يُنَصّ عليها كمصطلح، وحين يُقدَّم امرؤ القيس بِإِجْمَاعٍ نَقْدِيٍّ فَإِنَّ أَهَمَّ مسوغات تقديمه أَنَّه أوَّل مَن أبكى واستبكى، وقيَّد الأوابد، وشبَّه النِّسَاءَ بِالبَـيْضِ(19).

إِنَّ مُصْطَلَحَ الصُّوْرَةِ ليس مصطلحًا وافدًا على النَّقْدِ العَرَبِيِّ كما يرى بعض الباحثين(20)، ولكنه مُصْطَلَحٌ لَهُ جُذُوْرُهُ الرَّاسِخَةُ فِي النَّقْدِ العَرَبِيِّ القَدِيْمِ. فَالعَرَبُ أخذوا مصطلح الصُّورة مِن لغتهم. فهم حينما أداروا كلمة صورة بمعانٍ لغويَّة متعدِّدة -كما تقدَّم آنفًا في المعنى اللُّغَوِيِّ- وصلوا على يد بعض نقَّادهم وبلاغييهم إلى مصطلح يعني -في الغالب- تجسيد المعاني والأفكار في ذهن الأديب، وإبرازها في أساليب متعدِّدة، أشهرها البيانيَّة. تلك الأساليب هي أداة هذا الأديب في التَّعبير عمَّـا في قلبه وعقله ونفسه ليوصله إلى الآخرين، كما يُعَبِّر عن ذلك الرسَّامُ مِنْ خلال الخطوط، والألوان، والظِّلال، ونحوها.

وفي النَّقْدِ العَرَبيِّ القَدِيْمِ إِشَارَاتٌ إِلَى مُصْطَلحِ الصُّوْرة، تلك الإشَارَات - وَإِنْ كَانَتْ قَلِيْلَةً - يمكن أن تُشَكِّلَ جُذورًا لمصطلح الصُّوْرَةِ الفَنيَّة على أقل تقدير. ويكاد ينحصر مدلول مصطلح الصُّورة في التُّراث النَّقْدِيِّ العَرَبيِّ في الأشياء المحسوسة، أو في اللفظ المقابل للمعنى، كما اشتهر إطلاقه على فنون البيان التَّشبيه، والاستعارة، والكناية، والمجاز؛ لأَنَّ البَلَاغَةَ لم تنفصل حينذاك عن النَّقد بصورة واضحة.

أمَّا عن تأريخ استعمال مصطلح الصُّورة في النَّقد العَرَبِيِّ القَدِيمِ فكانت أوَّلُ إِشَارَةٍ إلى المصطلح في التَّعبير عن الكلام قد ظهرت عند أبي عمرو كلثوم العتَّابي(21) (- 220 هـ)، حين نُقِلَ عنه أنَّه جعل الصُّوْرَةَ تقوم على تأليف الكلام بنظم ألفاظه في تراكيب. يقول: الألفاظ أجساد، والمعاني أَرْوَاحٌ، وَإِنَّما تراها بعيون القلوب، فإذا قدَّمـتَ منهـا مؤخَّـرًا، أو أخَّـرتَ منهـا مقدَّمًا أفسَدْتَ الصُّورةَ وغيَّرتَ المعنى، كما لـــو حُـــوِّل رأسٌ إلـــى موضـــع يَـــدٍ، أَو يَـــدٌ إلـــى موضـــع رِجْـــلٍ، لتحوَّلَـــت الخِلْقَـــة، وتغيَّـــرَت الحِلْيَـة(22).

كما أورد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (- 255 هـ) مصطلح التَّصوير في عبارته الشَّهيرة عن الشِّعْرِ حين قال: إنَّما الشِّعْرُ صِنَاعَةٌ وَضَرْبٌ مِن النَّسْجِ وَجِنْسٌ مِن التَّصْوِيرِ(23). وقد اختلف بعضُ النقَّادِ المعاصرين(24) في مراد الجاحظ بمصطلح التَّصْوِيرِ، أهو التَّصوير الحسي في الشِّعْرِ، أم التَّصوير الذِّهني الذي يطبع نسج الصُّورة الشِّعريَّة؟ وهنا يمكن القول: إنَّ الجاحظ لم يقصد إلى جعل التَّصْوِيرِ مصطلحًا فنيَّـــًا، ولكنه اقتبس لفظة التَّصوير بمدلولها الحسِّي ليوضِّح بها مدلولاً ذهنيًا(25)؛ يتمثَّل هذا المدلول الذِّهْنِيُّ في صياغة الألفاظ المعبِّرة عن المعاني صِيَاغَةً دَقِيْقَةً؛ بحيث تخرج تلك المعاني بصورة حسنة.

وسار كُلٌّ مِنْ قُدَامَة بن جعفر (- 337 هـ) وأبو هلال العسكريُّ (- 395 هـ)(26) على نهج الجاحظ في استعمال لفظة الصُّوْرَة؛ حيث لم ينقلاها من إطار الاستعمال في المدلولات الحسيَّة لتصبح مصطلحًا نقديَّــــًا فنيَّـــًا، بل وقفا في استعمالها عند حَدِّ قياس الأَشْيَاءِ ذات المدلولات الذهنيَّة على الأشياء ذات المدلولات الحسيَّة.

وأتى الإِمَامُ البَاقِلانيُّ (- 403 هـ) في هذا الباب بِعِبَارَةٍ لَطِيْفَةٍ، تحمل إِضَافَةً دَقِيْقَةً رأى فيها أَنَّ المتَكَلِّمَ البَارِعَ يحتاج إلى لُطْفٍ في اللِّسان، والطبع في تصوير ما في النَّفس للغير(27). فأدخل لفظة تصوير في الكلام أيضًا؛ جاعلاً حسن الإبانة عن الأغراض القائمة في النُّفوس تصويرًا.

أمَّا الذي نقل مصطلح الصُّورة مِنْ عَالَم المحسوسات ليصبح مصطلحًا نقديَّـــــًا للأشكال التي تتشكَّل بها المعاني عن طريق الألفاظ فهو الإِمَامُ عَبْدُ القَاهِرِ الجُرْجَانِيُّ (- 471هـ)؛ حيث قال: وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَنَا: الصُّوْرَة، إِنَّـمَا هُوَ تَمْثِيْلٌ وَقِيَاسٌ لِمَا نَعْلَمهُ بِعُقُوْلِنَا عَلَى الَّذِي نَرَاهُ بَأبْصَارِنَا، فلمَّا رَأَيْنَا البَيْنُونَة بين آحَادِ الأجْنَاسِ تكون مِن جِهَةِ الصُّورة، فكان تَبَـيُّن إِنْسَانٍ مِنْ إِنْسَان، وَفَرَسٍ مِنْ فَرَسٍ، بِخُصُـوْصِيَّة تَكُونُ في صُوْرة هذا لا تكون في صورة ذاك...، ثمَّ وَجَدْنَا بين الْمَعْنَى في أَحَدِ البَيْتَين وَبَيْنَه في الآخر بَيْنُوْنَةً في عُقُوْلِنَا وَفَرْقَــــًا - عَبَّرْنَا عَنْ ذَلِكَ الفَرْق وَتِلْك البينونة بِأَنْ قُلْنَا: لِلْمَعْنَى في هَذا صُوْرَة غَيْر صُوْرَته في ذلك(28).

وَلِئَلَّا يُنْكِرُ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ اسْتِعْمَالَ مُصْطَلَحِ الصُّوْرَةِ اسْتَنَدَ عَبْدُ القَاهِرِ إِلَى مَقُوْلَةِ الجَاحِظِ السَّابِقَةِ، فَقَـالَ: وَلَيْسَ العِبَارَةُ عَنْ ذَلِكَ بِالصُّوْرَةِ شَيْئًا نَحْنُ ابْتَدَأْنَاهُ فَيُنْكِرَهُ مُنْكِرٌ، بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَشْهُوْرٌ فِي كَلَامِ العُلَمَاءِ، وَيَكْفِيْكَ قَوْلُ الجَاحِظِ: (وَإِنَّمَا الشِّعْرُ صِيَاغَةٌ، وَضَرْبٌ مِن التَّصْوِيْرِ)(29).

وَفي نَصٍّ آخَر في الدَّلائل - أيضًا - رَبَطَ عَبْدُ القاهر بين الكلام والتَّصوير فرأى أَنَّ سَبِيْلَ الكَلَامِ سَبِيْلُ التَّصوير والصِّياغة، وأنَّ سبيل الْمَعْنَى الذي يعبَّر عنه سبيلُ الشَّيء الذي يقع التَّصوير والصَّوغُ فيه(30). فهو يشدِّد على أَنَّ مزية الكلام ترجع إلى نظمه، وحسن التئام لفظه ومعناه، لا إلى الألفاظ مِنْ حَيْث هي ألفاظ، ولا المعنى مِن حيث هو معنى. وقد حرص على إيضاح هذه الفكرة، فقال مُشبِّهًا: كالفضَّة والذَّهب يُصَاغ مِنْهما خاتَمٌ أو سِوَارٌ. فكما أن مُحَـالاً إذا أنت أَرَدتَ النَّـظَرَ في صَوْغِ الخَاتَمِ، وَفِي جَوْدَةِ العَمَلِ وَرَدَاءَتِهِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى الفِضَّـةِ الحاملةِ لتلك الصُّـورة، أو الذَّهب الذي وقع فيه ذلك العمل، وتلك الصَّنعة - كذلك مُحَالٌ إذا أردتَ أن تَـعْرِفَ مكان الفضلِ والمزيَّة في الكلام، أن تنظر في مُـجَرَّد معناه(31).

لَقَدْ كَانَتْ نَظَرِيَّةُ عَبْدِ القَاهِرِ فِي النَّظْمِ اهْتِمَامًا بِالصُّوْرَةِ؛ وَلِذَلِكَ رَبَطَ السَّرِقَاتِ بِهَا؛ لأنَّه يرى أنَّ التَّصْوِيْرَ أَسَاسُ العَمَلِ الإِبْدَاعِيِّ. أمَّا المعنى فقد يكون شائعًا مألوفًا، ولكنَّ صياغته ترسم له صُوْرَةً جَدِيْدَةً تكشف للمتلقِّين بَرَاعَةَ الشَّاعِرِ وقدرته على إِبْدَاعِ الصُّورة، فإذا تغيَّر النَّظْمُ، فلا بُدَّ حينئذٍ مِنْ أَنْ يَتَغَيَّر المعنى؛ لأَنَّ غَايَةَ النَّظْمِ التَّعْبِيرُ عَن المعاني مِنْ خِلَال العلاقات بين المفردات والجُمَل، أي: في التَّراكيب.

وَلَم يَبْتَعِدْ حَازِمٌ القرطَاجنِّيُّ (- 684 هـ) كثيرًا عمَّا جاء به عبد القاهر حينما نظر إلى الصُّورةِ مِن خلالِ التَّخْيِيلِ والمحاكاةِ التَّشبيهيَّةِ، فقال: إنَّ المعَانِيَ هي الصُّوَرُ الحَاصِلَةُ في الأَذْهَانِ عن الأَشْيَاءِ الموجُوْدَةِ فِي الأَعْيَانِ. فَكُلُّ شَيءٍ لَهُ وُجُودٌ خَارِجَ الذِّهنِ فإنَّه إِذَا أُدْرِكَ حصلتْ له صورةٌ في الذِّهنِ تُطَابق لما أُدرك منه، فإذا عـبَّر عن تلك الصُّورةِ الذهنيَّةِ الحاصلةِ عن الإدراكِ أقامَ اللفظُ المعـبَّرُ به هيئةَ تلك الصُّـورةِ الذِّهنيَّةِ في أفهامِ السَّامعين وأذهانهم (32).

إِنَّ كَثِيرًا مِن البَلَاغِيِّينَ الذين أتوا بعد عبد القاهر لم يُضيفوا لمصطلح الصُّورة الذي أطلقه عبد القاهر، وَإِنَّمَا تناولوا لَفْظَ الصُّورة بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ هي جُزْءٌ ممَّا عَنَاهُ عبد القاهر حين أطلق مصطلحه، كالتَّشبيهات والاستعارات التي تُقدِّم المعاني في صور محسوسة(33).

والخُلَاصَةُ فِي هَذَا أَنَّ دِرَاسَةَ العَرَبِ لِلصُّوْرَةِ أَمْرٌ أَصِيْلٌ، ولم يَكُن رَدَّ فِعْلٍ لِجُهُوْدِ اليونان القُدَمَاءِ فِي دِرَاسَةِ الصُّوْرَةِ؛ إذ لا يمكن تَصَوُّرُ شِعْرٍ خَالٍ مِن الصُّوْرَةِ، ولم يكن الاهتمام أيضًا ثمرةً للبيئة اللغويَّة، والكلاميَّة، والفلسفيَّة، والقبول بتلك الفرضيَّات يعني إلغاءً للطبيعة الابتكاريَّة في العقل العَرَبِيِّ(34).

واحْتَجَّ بَعْضُ الدَّارسين المعاصرين الذين يرون أَنَّ مُصْطَلَحَ الصُّوْرَةِ ليس له جُذُوْرٌ في التُّرَاثِ النَّقْدِيِّ العَرَبِيِّ بِأَنَّ القَوْلَ بِقِدَمِ مصطلح الصُّورة فيه تَـحْطِـيْمٌ للمادَّة اللُّغويَّة التي إِذَا بَـدَأَتْ بِـالصُّـورة وَجـبَ أَنْ تَـنْـتَـهِـي بِـالمـصْـطَـلَـحِ الذِي يَـرْتَـبِـطُ بِـهَا اشْـتِـقَـاقًا، وَهُـوَ الـتَّـصَــوُّر، لَا الخَيَال الذي انتهت إليه. وَقَدْ تَرَكَ هَؤُلَاءِ الدَّارِسُوْنَ الدّلَالَةَ العَرَبِيَّةَ القَدِيْمَةَ لِكَلِمَةِ صُوْرَة، وَرَغِبُوا فِي الكَلِمَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ مستشهدين بِهَا؛ لأَنَّها - في نَظَرِهِم - تُبـْرِزُ عَلَى مُسْتَوى الاشتقاق الامْتِدَادَ الطبِيْعِيَّ بين الصُّورة والخيال، ورأوا أَنَّ تَحْطِيْمَ الامْتِدَادِ الطَّبِيْعِيِّ لِلغَةِ يُنْتِجُ تَحْطِيْمًا فِكْرِيًا خَطِيرًا(35). وليس الأمر كذلك، فمِنَ البَدَهِيِّ أَنْ يَكُوْنَ هُنَاكَ تَبَايُنٌ بين سنن العربيَّة والمنهج اللُّغَوِيِّ الأُوربيِّ، وهذا التَّباين يقتضيه اختلاف طبيعة اللُّغات(36).

وَهُنَا يُمْكِنُ القَوْلُ: إِنَّ شيوع مصطلح الخيال ونحوه مكان مصطلح التَّصَوُّرِ ليس قصورًا في إدراك العرب للصِّلة بين الصُّورة والخيال، بل إِنَّهم يدركون اعتماد الصُّورة في تشكيلها على المحاكاة والخيال؛ لأَنَّهما عنصرا تكوينها، ورسم خطوطها. فهي إِنَّما تنشأ عن جهد التَّخيُّل الذي يبذله النَّاصُّ لدى بَثِّ رِسَالَةٍ أَدَبِيَّةٍ ما. فالصُّوْرَةُ وَلِـيْدَةُ التَّـخَـيُّـلِ بِـاتِّـــفَـاقِ القـدامـى والـمحـدَثِينَ معًا، في حين أَنَّـها تغتدي ثمرة جهد التَّصوُّر - أثناء تلقِّي هذه الصُّورة - الذي كان الباثُّ قد صوَّر به موقفًا، أو رعشةً، أو غضبةً، أو انتفاضةً، أو نفثةً، أو لقطـةً عـاطفيَّةً، أو قبسةً جماليَّةً، وما شئتَ مِن هذه المعاني، والمظاهر، والمواقف، والمشاهد التي تفضي إلى تفجير الخيال، وتفتيق العَبْقَرِيَّة الأَدَبِيَّة(37).

وقدامى البلاغيين والنُّـقَّاد - إلى جانب معرفتهم بالصُّورة - عرفوا الخيال، وعنوا به بما له مِنْ أَثَرٍ في خَلْقِ الصُّوْرَةِ الشِّعريَّة، وكان عَبْدُ القَاهِرِ مِنْ أَبْرَزِ الذين أظهروا روعته عندما فرَّق بين المعاني العقليَّة والمعاني التَّخييليَّة، وأرجع إلى اللون الثَّاني الحِذقَ والبَرَاعَةَ في التَّصوير(38).

كما فرَّق يحيى بن حمزة العلويُّ (- 749هـ) بين الخيال والوهم، فرأى أنَّ الخَـيَالَ أكثر ما يكون في الأمور المحسوسة، فَأَمَّا الأُمُوْر الوَهْمِيَّة فَإِنَّما تكون في الـمحسوس وغير الـمحسوس مـمَّا يكون حاصلاً في التَّوهُّم وداخلاً فيه(39).

ومِن القضايا التي أثارها بَعْضُ النُّـقَّادِ المعَاصِرِينَ حَوْلَ الصُّورة في التُّراثِ الشِّعريِّ القَدِيمِ القَوْلُ بِأَنَّها ذَاتُ نَـزْعَةٍ حِسِّيَّةٍ، وَأَنَّ تلك النَّـزْعَةَ هي محل التَّـفضيل عند الشُّعراء والنُّقَّـاد القدامى على حَدٍّ سواء، فالشَّاعِرُ يستحسن ما ترضى عنه الحَوَاسُّ، كلّ حاسَّة وما يوافقها، والنُّـقَّادُ يستحسنون التَّصْوِيرَ المعْتَمِدَ على التَّشابه الحسِّيِّ بين الأشياء دون النَّظر فيما وراء ذلك، فلا يغوصون في أعماق الصُّورة، ولا ينفذون إلى جوهرها، ولا ينظرون مدى تأثيرها في النَّـفْسِ. فالمهمُّ عندهم هو مجرَّدُ العثور على تشبيهٍ للشَّيءِ في شكله، أو لونه، أو حجمه(40). وقد اعتمد هـؤلاء النُّقَّادُ في هذا الحكم على بعض النُّصُوْصِ الشِّعريَّة كقول ابن المعتز (-296هـ):

وَانْظُرْ إِلَيْهِ كَزَوْرَقٍ مِنْ فِضَّـــــــــــــــــــةٍ قَــــــدْ أَثْـقَلَـتْهُ حُـمُـوْلَـةٌ مِنْ عَنْـبَــــــــــــرٍ(41)

فهو يُشبِّه الـهِلَالَ وهو مـحسوس بالزَّورق الـمحمَّل بالعنبر، وهو محسوس أيضًا، فالشَّاعر لم يزد في التَّصوير على نقل الشَّكل واللون والحجم باعتبار النَّظر مِن بعيد دون إتباع ذلك بالشُّعور الصَّادق بجمال الهلال، وروعته، وتأثير هذا الجمال في النَّفس، فهي إِذَن مجرّد مطابقة شكليَّة جامدة بين صورتين، بينما الهـلال يثير في النَّفس مشاعر الطُّفولة التي تحبو، والأمل بمستقبل مشرق، والشُّعور بتجدّد الحياة، وقد يثير فيها الإحساس بالضَّعة، وكان الأجدر استثمار تلك المشاعر في بناء علاقة إيحائيَّة مع الصُّورة لتكون هي الوسيلة الفاعلة في نقل هذه المشاعر(42).

وفي هذا الحكم - وَلَا شَكَّ - تَـعْمِيْمٌ ظَالِمٌ يشوِّه التُّراثَ الشِّعريَّ القديمَ الزاخرَ بالنَّماذج الحيَّة المملوءة بالمشاهد الجميلة، والصُّور الممتعة التي تُعبِّر عن مشاعر قائليها، وتفيض بالحركة والحياة ممَّا ينفي عنها صفة الجمود والحَرْفِيَّة.

والصُّوَرُ الشِّعْرِيَّةُ القَائِمَةُ عَلَى التَّشبيه الحسِّيِّ لَا يخلو كثيرٌ منها مِن الرَّوعةِ والجمالِ والْمُتعةِ بما فيها مِن براعة التَّصوير، ودقَّة الملاحظة، ونفاذ الرُّؤية، ولذلك استحسن الإِمَامُ عَبدُ القَاهِرِ الجرجانيُّ (- 471هـ) - أبياتًا لعبد الله ابن المعتز كلها تشبيهات محسوسة(43)، منها قوله:

كَأَنَّ عُيُوْنَ النَّرْجِسِ الْغَضِّ بَيْنَهُ مَدَاهِــــــــنُ دُرٍّ حَشْوَهُــــنَّ عَـقِيْـــــــــــــــقُ(44)

فعبد القاهر استحسن تشبيه زهرة النَّرجس - بعد استعارة العيون لها - بمَدَاهِن دُرٍّ حشوها مِنْ عقيق، والْمَدَاهِنُ: جمع مُدْهُن وهي قارورة الدُّهْن(45)، والعَقِيقُ واحده عَقِيْقَةٌ، وهو خرز أَحمر يُتَّخَذُ منه الفُصُوص(46)، فالتَّشبيه هنا قَائِمٌ على المشابـهة في الشَّكل واللَّون، ولا يخفى ما فيه مِن براعة التَّصوير، ودِقَّة الملاحظة، ونفاذ الرُّؤية، ما يجعلها معايير فنيَّة وجماليَّة تصلح لأن تكون أساسًا للحكم بجمال التَّشبيه.

كَمَا أَنَّ التَّصْوِيْرَ القَائِمَ عَلَى التَّشْبِيْهِ الحِسِّيِّ لَا يَقِفُ عِنْدَ نَقْلِ الأَشْكَالِ وَالصُّوَرِ وَالأَلْوَانِ وَالأَحْجَامِ وَالحَـرَكَاتِ فَحَسْب، فَهَذَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ جَمِيْعًا فِي رُؤْيَتِهِ وَالإِحْسَاسِ بِهِ، وَإِنَّـمَا هُوَ وَسِيْلَةٌ لِنَقْلِ الشُّعُوْرِ بِهَذِهِ الأَشْكَالِ وَالأَلْوَانِ مِنْ نَفْسٍ إِلَى نَفْسٍ(47).

إِنَّ حُكْمًا عَامَّـــًا كَهَذَا يَتَطلَّبُ القِيَامَ بِنَوْعٍ مِنَ الاسْتِقْرَاءِ لِلشِّعْرِ العَرَبِيِّ القَدِيْمِ، وَلِلدِّرَاسَاتِ البَلَاغِيَّةِ النَّقْدِيَّةِ التِي تَنَاوَلَتْهُ(48).

ب - مُصْطَلَحُ الصُّوْرَةِ فِي النَّقْدِ العَرَبِيِّ الحَدِيْثِ:

لَقَدْ كَثُـرَ اسْتِعْمَالُ مُصْطَلَحِ الصُّوْرَةِ الفَنِّيَّةِ فِي النَّقْدِ العَرَبِيِّ الحَدِيْثِ، وَبِخَاصَّةٍ فِي نَقْدِ الشِّعْرِ؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ الاهْتِمَامِ الوَاضِحِ وَالبَالِغِ بِالصُّوْرَةِ الفَنِّيَّةِ فِي الدِّرَاسَاتِ النَّـقْدِيَّةِ الحَدِيثَةِ. وَمِنْ مَظَاهِر هَذَا الاهْتِمَامِ ذَلِكَ الكَمُّ الهَائِلُ مِن الدِّرَاسَاتِ التِي اتَّخَذَتْ مِن مُصْطَلَحِ الصُّـوْرَةِ عِنْوَانًا لَـهَا(49)؛ لِمَا لِلصُّوْرَةِ مِن أَهَـمِّيَّةٍ عُظْمَى فِي جَذْبِ المتَـلَقِّي؛ لِيَتَفَاعَل مَعَ الـمُبْدِعِ، فَالصُّوْرَةُ حَظِيَتْ بِـمَنْـِزلَةٍ سَامِيَةٍ لَا تَـتَطَلَّعُ إِلَى مَرَاقِيهَا الشَّامِخَةِ أَكْثَـرُ الأَدَوَاتِ التَّـعْبِيْرِيَّةِ الأُخْرَى، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ نُـقَّادٍ يَـنْـتَمُوْنَ إِلَى عُصُوْرٍ وَثَـقَافَاتٍ وَلُغَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ(50).

وَقَدْ تَطَوَّرَت الصُّوْرَةُ فِي الشِّعْرِ العَرَبِيِّ الحَدِيْثِ وَنَقْدِهِ فَوَلَـجَتْ عَوَالِـمَ فَسِيْحَةً أصبحت معها أَكْثَـرَ عُمْقًا في غالب أحوالها، واتَّسَعَ مَفْهُوْمُهَا، وَغَزرَتْ مَعَانِيهَا، وَتَـنَوَّعَتْ تَـعْرِيْـفَاتُـهَا؛ تَبَعًا لِتَنَوُّعِ ثَـقَافَةِ الأُدَبَاءِ وَالنُّـقَّادِ، واختلاف مشاربهم واتجاهاتهم الفِكْرِيَّة(51).

كَمَا تَـعَدَّدَت المصَادِرُ المفسِّرَةُ لَـهَا، مَا بَينَ عِلْمِ النَّـفْسِ، وَعِلْمِ الجَمَالِ، وَالمدَارِسِ الأَدَبِيَّــةِ، والمنَاهِــجِ النَّـقْدِيَّــةِ الحَدِيْـثَــةِ، وَمَــا تُـلْقِيْــهِ فَـلْسَفَــاتُ هَــذِهِ المــدَارِس مِــن ظــلال علـى المصطلح(52).

وَلَـم يَكُنْ مَفْهُوْمُ الصُّوْرَةِ الفَنِّيَّةِ وَاضِحًا في النَّقْدِ الأُوروبيِّ؛ لأنَّ هذا المفهوم دائمًا ما كان يتأثَّر بالاتجاه الذي تسير معه الصُّورة والمذهب الذي تنتمي إليه. فهي عند الكلاسيكيِّين صورة جامدة تهدف إلى نقل الوجود الخارجيِّ كما هو، دون النَّظر في الإيحاءات التي تكون وراء الألفاظ، ومِنْ ثَـمَّ لا ينبغي أن يُترَكَ الخَيَالُ طَلِيْقًا، بل يجب تقييده بالعقل، والصُّورة عند الرُّومانسيِّين تمثِّل مشاعر الشَّاعِرِ وَأَفْكَاره الذَّاتيَّة، وعند البرْنَاسِيِّينَ تعـرض الموضوعيَّة، وعند الرَّمزيِّين تنقل الـمحسوس إلى عالم الوعي الباطن والأحلام، وعند السِّرياليِّين تُـعنى بالدّلالة النَّفسيَّة(53).

أَمَّا عِنْد النُّـقَّادِ العَرَبِ المحدَثِينَ فَإِنَّ دِرَاسَةَ الصُّورةِ وَإِنْ كَانَتْ قد شغلت حيزًا واسعًا من اهتماماتهم إِلَّا أَنَّ الاتجاهات قد اختلفت بين نَاقِدٍ اعتمد اعتمادًا كبيرًا على ما درسه وتوصَّل إليه النُّـقَّادُ الغربيُّون بِشَأْنِ الصُّورة وأهميتها وعناصر تكوينها، ونَاقِدٍ آخر لم ينبهر بما لدى الغرب، بل قرأ بعين البصير، فحاول أَنْ يُوَفِّقَ في دراساته وبحوثه في موضوع الصُّورة بين التُّرَاثِ العَرَبِيِّ الأَصِيْلِ، مِـمَّا وَرَّثَهُ السَّابِقُونَ مِنْ نَتَاجٍ نَقْدِيٍّ وَبَلَاغِيٍّ على جانب كبير من الأهميَّة، وبين الدِّراسة الجديدة والموضوعيَّة عند الغرب وما وقفوا عليه مِن مسائل مهمَّة، لا غنى عنها للبَاحِثِ ذِي النَّهْمَةِ، وَالدَّارِسِ ذِي الهِمَّةِ.

وَالنُّـقَّادُ العَرَبُ الذين اعتمدوا كليَّاً على الرُّؤْيَةِ الغَرْبِيَّةِ الأُوْرُوبِيَّةِ وقعوا فيما وقع فيه الغربيُّون أَنْفُسُهُمْ مِن التَّعميم والغموض في تعريف الصُّورة الفنيَّة، فعمدوا إلى الإِغْرَابِ فِي الأُسْلُوْبِ، وارتبكت مواقفهم، ولم يتَّضح مَعْنى الصُّوْرَةِ الفَنِّيَّةِ وَمَفْهُوْمُهَا عِنْدَهُم، ومِنْ ذلك قول مصطفى ناصف عن الصُّورة: إنَّها مَنْهَجٌ فَوْقَ المنطق لبيان حقائق الأشياء(54) وهذه عبارة يكتنفها الغموض والتَّعميم. وقد علَّق عليه أحد الباحثين فرأى أنَّه يُـحَاكِي مَرَّةً رَأْيَ الآخرين، ثم يصطفي لنفسه رأيًا من وحي السِّرياليِّين واللامعقولين الأوربيِّين، وَيُقَرِّرُ: أَنَّ الصُّوْرَةَ الأَدَبِيَّةَ مَنْهَجٌ - فوق المنطق - لبيان حقيقة الأشياء. ويقينٌ أنَّ هذا القرار في تحديد طبيعة الصُّورة الفنيَّة أغرب من الغريب؛ إذ كيف يكون لما فوق المنطق منهج؟! وكيف يتمكن هذا المنهج العائم فوق المنطق من بيان حقيقة الأشياء؟! أليست حقيقة الأشياء منطقيَّة؟! وَأَنَّ الأَشْيَاءَ لا تُعَزِّزُ إلا مَا هو مَنْطِقِيٌّ؟!(55). ووَصَفَ نَاقِدٌ آخر مَوْقِفَ مصطفى ناصف مِن الصُّورة بِأَنَّهُ مُرْتَبِكٌ(56). ومِن هذا الفريق أيضًا نصرت عبد الرحمن الذي أَقَرَّ ابْتِدَاءً بخطورة قضيَّة الصُّورة، ثُمَّ قَـرَّرَ أَنَّ المصْطَلَحَ وَافِدٌ عَلَى النَّـقْدِ العَرَبيِّ، وفَصَلَ الصُّورةَ عن البلاغة، إِلَّا أَنَّه لم يُـقَدِّم أَيَّ تَـعْرِيْفٍ لِلصُّوْرَةِ الفَنِّيَّةِ(57).

وفي مقابل هذا الفريق يوجد فريق آخر مِن النُّقَّادِ اعتمد على جهود الباحثين العرب القدامى إلى جانب انتقاء الملائم مِن النَّقْدِ الأُوروبيِّ، ومِنْ هؤلاء النُّقَّاد أحمد الشَّايب، الذي يرى أنَّ الصُّوْرَةَ الأَدَبيَّةَ هيالوسائل التي يحاول بها الأَدِيْبُ نَقْلَ فِكْرَتِهِ وَعَاطِفَتِهِ معًا إِلَى قُرَّائِهِ، أو سَامِعِيْهِ(58)، وَخَلصَ إِلَى أَنَّ لِلصُّوْرَةِ الأَدَبِيَّةِ مَعْنَـيَـيْنِ:

الأوَّل: ما يقابل المادَّة الأدبيَّة، ويظهر في الخيال والعبارة. والثَّاني: ما يقابل الأسلوب، ويتحقَّق بالوحدة، وهذه تقوم على الكمال والتَّـأليف، والتَّناسب(59).

وَمِقْيَاسُ الصُّوْرَةِ الجَيِّدَةِ عِنْدَهُ هوقدرتها على نقل الفكرة والعاطفة بِأَمَانَةٍ وَدِقَّةٍ -والصُّورة هي العبارة الخارجيَّة للحالة الدَّاخليَّة- وهذا هو مِقْيَاسُهَا الأَصْلِيُّ. وَكُلُّ ما نصفها به مِنْ جَمالٍ، وروعةٍ، وقوَّةٍ إنَّما مرجعه إلى التَّناسب بينها وبين ما تصوِّر من عَقْلِ الكاتب، ومزاجه تصويرًا دقيقًا خاليـًا من الجفوة والتَّعقيد، فيه روح الأديب وقلبه؛ بحيث نقرؤه كأَنَّما نحادثه، ونسمعه كأَنَّما نعامله(60).

وهذا المقياس ذو أَهَميَّةٍ جَدِيْرَةٍ بَالتَّـأَمُّلِ؛ لأنَّه يجعل الصُّوْرَةَ في العمل الأَدَبيِّ قُوَّةً خَلَّاقَةً قَادِرَةً عَلَى نَقْلِ الفِكْرَةِ إِلَى المتلقِّين، وتُـبْرِز عاطفـةَ الْمُبْدِع، وتكشف - إلى جانب ذلك - عن كفاءته الفَنِّـيَّة، وروحه الشَّفَّافة الرَّقِيْـقَة.

مِنْ هُنَا يمكن القول: إِنَّ الحُكْمَ بِجَمَالِ الصُّوْرَةِ وروعتها وقوتها إِنَّما يكون بمستوى التَّناسب والارتباط بين الفكر والأسلوب، أو اللُّغة والأحاسيس.

وَيُـعَـرِّفُ عَبْدُ القَادِرِ الرّبَاعِي الصُّوْرَةَ بِأَنَّها أَيَّة هَيْـئَةٍ تثيرها الكلمات الشِّعريَّة بِالذِّهْنِ شَرِيْطَةَ أَنْ تَكُوْنَ هذه الهيئة معبِّرة وموحية في آنٍ(61)، ثُم يُـفَصِّلُ هَذَا التَّـعْرِيْفَ فيقول: الصُّوْرَةُ تَرْكِيْـبَةٌ عَقْلِيَّةٌ تحدث بالتَّناسب، أو بالمقارنة بين عنصرين هما في أحيان كثيرة عُنْصُرٌ ظَاهِرِيٌّ، وَآخَرُ بَاطِنِيٌّ، وأنَّ جمال ذلك التَّناسب، أو المقارنة يُحَدَّدُ بعنصرين آخرين هـما: الحافز والقيمة؛ لأنَّ كُلَّ صُوْرَةٍ فَـنِّيَّةٍ تنشأ بدافع، وَتُـؤَدِّي إِلَى قِيْمَةٍ(62).

ويريد بالعُنْصُرِ الظاهِرِيِّ ما يكون مـحسوسًا بإحدى الحواس كالسَّمع والبصر وغيرهـما. أَمَّا العُنْصُرُ البَاطِنِيُّ فهو -في الأغلب- أفكار الْمُبْدِعِ وَنَفْسِيَّته التي هزتها تَـجْرِبَةٌ عَمِيْقَةٌ.

أمَّا الحافز فهو الانفعال الذي يدفع الْمُبْدِعَ للبحث عن وسيلة تحمل أحاسيسه إلى الآخرين، فيجد الصُّوْرَةَ هي تلك الوسيلة. ولا تكون هذه الوسيلة الصُّورة ذات قيمة إِلَّا إذا كشفت عن المعنى العميق للحياة، وَدَلَّت بطريق الإيحاء إلى الخير والجمال فيها.

وَقَرِيْبٌ مِنْهُ تَعْرِيْفُ علي صبح للصُّورة حين قال: هي التَّركيب القائم على الإصابة في التَّنسيق الحَــيِّ لـوسـائـل التَّـعـبـير التي يـنـتـقـيـها وجـود الـشَّـاعـر - أعـني: خـواطـره، ومشاعره، وعواطفه - المطلق من عالم المحسَّات ليكشف عن حقيقة المشهد أو المعنى في إِطَارٍ قَوِيٍّ تَامٍّ مُحَسٍّ مُؤَثِّرٍ على نَحْوٍ يوقظ الخواطر والمشاعر في الآخرين(63).

وَهَذِهِ التَّعْرِيفَاتُ للصُّوْرَةِ الفَنِّيَّةِ -مِنْ وجهة نظري- مُعْتَدِلَةٌ؛ لأنَّها أحاطت بكثير مِن جوانب الصُّورة دون مبالغة، كتلك التي وقع فيها أحد الباحثين الـمعاصرين حين حـمَّل الصُّورة ما لا تـحتمل، فرأى أنَّـها جوهر الشِّعْرِ، وأداته القادرة على الخلق والابتكار، والتَّحوير والتَّعديل لأجزاء الواقع، بل اللغة القادرة على استكناه جوهر التَّجْرِبَة الشِّعريَّة، وتشكيل موقف الشَّاعر مِن الواقع وَفْقَ إدراكه الجماليّ الخاص(64).

وعودًا على تعريفات الصُّورة في النَّقْدِ العَرَبيِّ الحديث يكشف داود سلَّام عن تَعْرِيْفٍ مُوْجَزٍ لها؛ حيث تعني عنده امتزاج المعنى والألفاظ والخيال(65).

أَمَّا جَابِر عصفور فنظر إلى الصُّورة مِن جانب آخر، وهو ما تُحْدِثُهُ في المعنى مِنْ خُصُوْصِيَّةٍ وَتَأْثِيرٍ سببهما طريقة العرض لا طبيعة المعنى في ذاته. فالصُّورة عنده طريقة خاصَّة مِنْ طرق التَّعبير، أو وجه مِن أوجه الدّلالة، تنحصر أَهَمِّــيَّتُهَا فيما تُـحدثه في معنى مِن المعاني مِن خصوصيَّة وتأثير، ولكنَّه أيَّــــًا كانت هذه الخصوصيَّة، أو ذاك التَّأثير، فإنَّ الصُّوْرَةَ لَنْ تُـغَيِّرَ مِن طبيعة المعنى في ذاته. إنَّها لا تغيِّر إلا مِنْ طريقة عرضه، وكيفيَّة تقديمه(66).

وَالصُّوْرَةُ عند أحمد حسن الزيَّات تعني إبراز المعنى العَقْلِيِّ، أو الحِسِّيِّ في صورة مُحَسَّة، وهي خلق المعاني والأفكار المجرَّدة، أو الواقع الخارجيِّ من خلال النَّفس خَلقًا جَدِيْدًا(67). وَيَظْهَرُ في هَذَا التَّعْرِيفِ الاهْتِمَامُ بِإِبْرَازِ المعاني في صُوَرٍ مَحْسُوْسَةٍ، مع اشتراط أَنْ يَتِمَّ ذلك من خلال الْمُبْدِع، ووجهة نظره الخاصَّة مع الإضافة والتَّجديد.

كَمَا عَرَّفَ مُحمَّد حسن عبد اللّه الصُّوْرَةَ الشِّعْرِيَّةَ، فقال: إِنَّها صورة حسيَّة في كَلِمَاتٍ اسْتِـعَـارِيَّــةٍ إلى درجة ما، في سياقها نغمة خـفيضة مِن العاطفة الإنسانيَّة، ولكـنَّها أَيْضًا شُحِنَتْ -مُنْطَلِقَةً إِلَى القَارِئ- عَاطِفَةً شِعْرِيَّةً خَالِصَةً، أَو انْفِعَالاً(68).

ولم يحصر إِحْسَان عبَّاس الصُّوْرَةَ في التَّعبير الحِسِّيِّ، أو الاستعارة، وَلَكنَّه يراها تُمثِّل جميع الأشكال المجازيَّة، ويرى أَنَّ الاتِّجاه إلى دراستها يعني الاتِّجاه إلى روح الشِّعر(69).

وَتُـعَرِّفُ بشرى موسى صَالح الصُّـوْرَةَ الفَنِّيَّةَ -بَعْد الإقـرار بصعوبة ذلك- بِأَنَّـها التَّركيبة اللغويِّة المحققة من امتزاج الشَّكل بالمضمون في سِيَاقٍ بَيَانِيٍّ خَاصٍّ، أَوْ حَقِيْقِيٍّ مُوْحٍ وَكَاشِفٍ، وَمُعَبِّرٍ عن جانب من جوانب التَّجْرِبَة الشِّعريَّة(70).

وهذا التَّعريف يتَّفق مع ما ذهب إليه محمَّد غنيمي هلال في عدم اشتراط مجـازيَّة الكلمة، أو العبارة لتشكيل الصُّورة، بل يرى أنَّ العبـارات الحقيقيَّة قد تكون دقيقة التَّصوير، خصبة الخيال وإن لم تتوسَّل بالأشكال المجازيَّة. يقول: إنَّ الصُّورة لا تلتزم ضرورة أن تكون الألفاظ، أو العبارات المجازيَّة، فقد تكون العبارات حقيقيَّة الاستعمال، وتكون مع ذلك دَقِيْقةَ التَّصْوِير ِ؛ دَالَّةً على خَيَالٍ خصب(71)، وهذه الصُّورة لا يقوى على صوغها إلا الشَّاعِرُ القَدِيْرُ؛ إِذْ هِيَ أَصْعَبُ مِن الصُّوَرِ الخَيَالِيَّة.

مِنْ هُنَا يُدْرِكُ المتَأَمِّلُ أَنَّ الصُّوْرَةَ ليست مجرَّد حَشْدٍ لألوان البيان فقط، بَلْ هُنَاك أُمُوْرٌ أخرى تتضافر في تشكيل الصُّورة، وإبراز جوانبها المختلفة، مِن مثل الخيال؛ إذ الصُّورة الشِّعريَّة نتاج لفاعلـيَّة الخيال. وفاعلـيَّة الخيال لا تعني نقل العالم، أو نسخه...، وَإِنَّما تعني إِعَادَةَ التَّشكيل، واكتشاف العلاقات الكامنة بين الظواهر، والجمع بين العناصر المتضادَّة، أو المتباعدة في وحدة(72)، وكذا العاطفة الصَّادقة القويَّة تسهم في جَـمَالِ الصُّورة وروعتها، وقدرتها على التَّأثير؛ لأَنَّ الصُّورةَ دون عاطفة تصبح فارغة(73)، ومثلهما الاسْتِعْمَالُ الجيِّدُ للُّغَةِ ودلالاتها، فهذا ممَّا يضمن بقاء الصُّورة فَاعِلَةً مُؤَثِّرَةً؛ لأَنَّ العَمَلَ الفَنِّيَّ لا يصمد، ولا يهيمن إلا بقيمته اللُّغَوِيَّة(74)، وكذلك جَمَالُ الإِيْقَاعِ يزيد حيويَّة الصُّورة، وقابليتها لدى المتلقِّي، مع ما يضفيه حُسْنُ التَّـأْلِيْفِ الصَّوْتِيِّ على الْمُبْدِع خلال عمليَّة النَّظْمِ مِنْ نَشْوَةٍ تجعله يتدفَّق بالصُّور الحارَّة، والتَّعابير المبتكرة الملهمة(75).

لقد اتَّسَعَ مَفْهُوْمُ الصُّوْرَةِ الفَنِّيَّةِ ليحوي ما هو أبعد مِن الوسائل البلاغيَّة المعروفة، وبدت الصُّورةُ في نظر الدَّارسين المحدثين أكثر حيويَّة، وهذا ما جعل أحدهم يقول: كَأَنَّ فِي كُلِّ تَعْبِيرٍ أَدَبِيٍّ تَصْوِيرًا فَنيَّـــًا ينبعث مِن مقدرة الشَّاعر على تركيب عباراته وتنسيق كلماته، وعلى قدرته في استنباط الإيحاء الفنِّي الكامل في باطن الألفاظ، وفي علاقاتها بعضها مع بعض فيكسو التَّعبير جمالاً فنيًّا(76).

ومع كثرة تعريفات الصُّورة الفنيَّة، وتنوّعها في الدِّرَاسَاتِ النَّـقْدِيَّةِ الحَدِيْـثَةِ عند العرب لَعَلِّي أَنْـتَخِبُ تَّـعْريفًا أَعْتَقِدُ صَوَابَهُ بِمَا فِيْهِ مِنْ دِقَّةٍ وَشُمُوْلٍ؛ لِيكُون أَسَاسًا لما يأتي مِنْ دِرَاسَةٍ تَطْبِيْقِيَّةٍ، وهذا التَّعريف هو تعريف عبد القادر القط الذي عرَّف الصُّورةَ بأنَّها الشَّكلُ الفَنِّي الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بَعْد أَنْ يَنْظِمَهَا الشَّاعِرُ في سِيَاقٍ بَيَانيٍّ خَاصٍّ؛ ليُعبِّر عن جانب مِن جوانب التَّجْرِبَة الشِّعريَّة الكاملة في القصيدة؛ مستخدمًا طاقات اللغة وإمكاناتها في الدّلالة، والتَّركيب، والإيقاع، والحقيقة، والمجاز، والتَّرادف، والتَّضاد، والمقابلة، والتَّجانس، وغيرها مِنْ وسائل التَّعبير الفنيّ(77).

فَـهَذَا التَّعْرِيْفُ يُحَـدِّدُ إِطَارَ الصُّوْرَةِ الفَنِّيَّةِ فِي الشِّعْرِ، وَلَا يحصـرها في كُلِّ مـا له صلـة بالتَّعبير الحسِّي، ولا يجعـلها مـرادفة للاستعمال الاستعاريِّ، ولا يشترط مجازيَّة الكلمة لتشكيل الصُّورة، بل يُدْخِلُ - إلى جانب ذلك - الأَلْفَاظَ وَالعِبَـارَاتِ بِإِيْحَاءَاتِهَا وَتَـرَاكِيْبِهَا، وَكَذَلِكَ لم يُهْمِل البَدِيْعَ وَأَثَرَهُ فِي تَشْكِيْلِ الصُّـوْرَةِ، كَمَا أَنَّ هَذَا التَّعْرِيْفَ قَدْ حَدَّدَ الهَدَفَ مِن التَّصْوِيْرِ الفَنِّي، وَهُوَ التَّعْبِيرُ عَن التَّجْرِبَةِ الشِّعْرِيَّةِ.

والمتَتَبِّعُ لِدِرَاسَةِ الصُّوْرَةِ الفَنيَّةِ على المستوى التَّطبيقي يلحظ اختلافًا بيِّنًا في طريقة تناول النُّصوص الإِبْدَاعِيَّة مِن القراءة إلى التَّحليل؛ تبعًا لاختلاف النَّظرة في كَيْفِيَّةِ الكشف عن الصُّورة داخل هذه النُّصوص.

أَمَّا عن وصف الصُّورة بِأَنَّها فنيَّة فَهو عُرْفٌ اصطلح عليه بَعْضُ النُّـقَّادِ المحْدَثِينَ، واستحسنوه في تعبيراتهم النَّقديَّة، فالصُّورة في نظرهم ذات أوصاف متعدِّدة، فهي توصف بأنَّها شِعْرِيَّةٌ إذا كانت في الشِّعر دون النَّثر، وأنَّـها أَدَبِيَّةٌ إذا شـملت الشِّعر والنَّثر معًا، وَأَنَّـها بَلَاغيَّةٌ، أَوْ بَيَانِيَّةٌ إِن اعتمدت على فنون البلاغة والبيان، وتوصف بِأَنَّها فَـنِّيَّةٌ إِنْ أُرِيْدَ بها معنى أشمل وأخصّ وأعمق؛ حيث لا وقوف عند حُـدود الفُـنون الـبلاغيَّة، بل تتعدَّاها لتشمل طاقات اللُّـغة الأخـرى، وهو ما ظهر واضحًا في التَّعْرِيفِ الْمُنْـتَخَبِ.

ولم يَرُق لبعض النقَّاد العرب المحـدثين وصف الصُّورة بالفنيَّة لاعتبارات متعدِّدة، منها: أنَّ مُصْطَلَحَ (الفَنّ) تَنَازَعَ في تعريفه الباحثون القدماء والمعاصرون، واختلفوا بشأن مصدره وطبيعته وأهدافه، ولم يتفقوا في أصله ودخوله إلى العربيَّة، إضافة إلى أَنَّ مَعَانِيَهُ غَيْرُ مُحَدَّدَةٍ؛ لارتباطه بالإنسان، ذلك الكيان المتغيِّر.

كما أَنَّ النُّـقَّادَ الغربيِّين -بمن فيهم بعض مفكريهم مِن أمثال أرسطو- لم يُؤْثَر عنهم وصف الصُّورة، بل هي عندهم مُصْطَلَحٌ نَقْدِيٌّ قَائِمٌ بذاته، بِمعْزِلٍ عن أي صفة تصفه، أو نعت ينعته(78)؛ ولهذا حَكَمَ بعضُ الباحثين المعاصرين على صفة الفَنِّيَّة بِأَنَّها مِنْ أَعْجَز الأَلفَاظِ دلالةً على شيء في العربيَّة. يقول: كُلُّ شيء نعجز عن تحديد دلالته بدقَّة في استعمالنا المعاصر نفزع إلى وصفه في شيء مِن العجز البادي بـ(الفَنِّي)...، ولا نزال نتدرج بهذا اللـفظ، وقل: نتدرك به نحو الاستعمالات الغامضة الشَّاحبة الفاقدة لكلِّ دلالة دقـيقة إلى أن وصفنا به في لغـتنا المعاصرة هـذا الشَّيء الممتحن بنا، والذي نطـلق عليه (الصُّورة)!(79).

وباحثٌ آخر يرى أنَّ كلمة (فَنّ) ليست عربيَّة بالمعنى المتعارف عليه الآن، بــل هي غربيَّــة تلقفهــا كَثِيـرٌ مِن البَاحِثِيــن، وَتَـبَـنَّاهـــــا، وردَّهــا إلى النَّـزعــات المثاليَّـــــة والشَّطحــات الغيبيَّة(80).

والواقع أَنَّ اللُّغَةَ العَرَبيَّة لم تغب عنـها كلمة (فَنّ)؛ مادَّةً ومدلولاً. جاء في كتاب العين الرَّجُلُ يُـفَنِّنُ الكَلَامَ، أَي: يَــشْتَقُّ في فَنٍّ بـعْدَ فَنٍّ(81). والفَنُّ: واحد الفُنُون، وهو الضَّرْبُ مِن العِلْمِ وغيره، والفَنُّ: الطَّرد؛ يُقَالُ: فَنَّ العَيرُ أُتُنَه يفنها فنًا، إذا طردها(82)، وفي بعض الأشعار يُطْلَقُ الفَنَّانُ، ويُرَادُ بِهِ الحِمَارُ الوَحْشِيُّ الذي له فُنُوْنٌ مِن العَدْوِ(83).

وبهذا يُعْلَمُ أَنَّ مَادَّة (فَن) قد جرت على اللِّسَانِ العَرَبيِّ، وحمل مدلولها مَعَانيَ البَرَاعَةِ والمهَارَةِ والتَّنوُّعِ. وعليه فالفَنُّ هو: النَّتاج المقترن بالمهارة وَالإِتْقَانِ، وعندما توصف به الصُّورة فإنَّ المراد تلك الصُّور التي تمتاز بالمهارة في البناء، والدقَّة في الصِّياغة عن وَعْيٍ مُتَـيَـقِّظٍ، وَإِرَادَةٍ هَادِفَةٍ(84). وعندما تستوي الكلمات والجُمل والفقرات في صياغات متقنة تُـعَبِّرُ وَتُـؤَثِّرُ فَإِنَّها تُكَوِّنُ صُوَرًا فنيَّةً.

إِنَّ الشَّاعِرَ العَرَبِيَّ الْمُبْدِعَ يَحْرصُ دَائِمًا عَلَى التَّـفَنُّنِ فِي التَّـعْبِيرِ، كَمَا يَحْرصُ عَلَى أَلَّا تقف صوره عند المحسوس، بل يتعدَّى ذلك، ويرتفع إلى محاولة التَّأْثِير في المتلقِّين بِإِيْحَاءَاتِهِ الفِكْرِيَّةِ وَالشُّعُوْرِيَّةِ ليكتشف أَجْوَاءً جَدِيْدَةً. فَـوَصْفُ الصُّوْرَةِ بِـ(الفَنِّيَّة) لا يتعارض مع الموروث النَّـقْدِيِّ العَرَبِيِّ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ مَضَامِينَ فَـلْسَفِيَّةً، أَوْ شَطَحَاتٍ فِكْرِيَّةً.

وَالصُّوْرَةُ عُنْصُرٌ مُهِمٌّ فِي العَمَلِ الأَدَبِيِّ، لَهَا أَهَـمِّــيَّةٌ مُسْتَمَدَّةٌ مِـمَّا تَتَمَثَّلُهُ مِنْ قِيَمٍ إِبْدَاعِيَّةٍ، وَذَوْقِـيَّـةٍ، وَتَعْبِيرٍ يَتَنَاغَمُ مَعَ تَجْـرِبَةِ الأَدِيْبِ وَمَشَاعِرِهِ وَأَحَاسِيْسِهِ. يقول أبو عَلِيٍّ الحَسَنُ بنُ رَشِيْقٍ القَيْرَوَانِيُّ (- 456 هـ): قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن العُلَمَاءِ: الشِّعْرُ مَا اشْتَمَلَ على الْمَثَلِ السَّائِرِ، وَالاسْتِعَـارَةِ الرَّائِعَةِ، وَالتَّشْبِيْهِ الوَاقِعِ، وَمَا سَوِى ذَلِكَ فَإِنَّـمَا لِقَائِلِهِ فَضْلُ الوَزْنِ... (85).

إِنَّ هَذِهِ العِبَارَةَ تُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الشِّعْرَ فِي جَوْهَرِ بِنَائِهِ لَيْسَ مُجَرَّدَ مُحَاوَلَةٍ لِتَشْكِيْلِ صُوْرَةٍ لَفْظِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ، لَا تَظْهَرُ فِيْهَا اخْتِيَارَاتُ صَاحِبِهَا، وَلَا تَتَغَلْغَلُ فِيْها عَاطِفَتُهُ، فَهِيَ فِي جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنْها سَعْيٌ لإِحْدَاثِ حَالَةٍ مِن الاسْتِجَابَةِ المشْرُوْطَةِ بِفَنِّيَّةِ البِنَاءِ الشِّعْرِيِّ. مِنْ هُنَا جَعَلَ بَعْضُ النُّقَّادِ الْمُحْدَثِينَ القُدْرَةَ عَلَى التَّصْوِيْرِ أَهَمّ مَوْهِبَةٍ يَمْتَلِكُهَا الشَّاعِرُ(86). وَفِي إِطَارِ الحَدِيْثِ عَن أَهَميَّةِ الصُّوْرَةِ يَرَى نَاقِدٌ مُعَاصِرٌ أَنَّ الشِّعْرَ لَا يَكُوْنُ شِعْرًا إِلَّا بِما يَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ عَنَاصِرَ تَعْتَمِدُ عَلَى الصُّوْرَةِ(87)، وَيَرَى نَاقِدٌ آخَر أَنَّ الصُّوْرَةَ وَسِيْلَةٌ لِلتَّمْيِيْزِ بَينَ شَاعِرٍ وَآخَر، كَمَا أَنَّها طَرِيْقَةٌ مُثْلَى لِلْكَشْفِ عَنْ أَوْجُهِ الاخْتِلَافِ بَينَ الشِّعْرِ القَدِيْمِ وَالشِّعْرِ الحَدِيْثِ(88).

وَلَا يَعْنِي هَذَا أَنَّ الحُكْمَ عَلَى الشِّعْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ خِلَالِ الصُّوْرَةِ فَحَسْب، فَإِنَّ فِي هَذَا غُلُوًا وَتَعَسُّفًا لَا يَرْتَضِيْهمَا مُنْصِفٌ؛ لِأَنَّهُمَا يُخْرِجَانِ كَثِيرًا مِن القَصَائِدِ الجِيَادِ التي رُبَّما خَلَتْ مِن الصُّوْرَةِ، مَعَ الإِيْمَانِ بِـمَا لِلصُّوْرَةِ مِنْ آثَارٍ فَاعِلَةٍ فِي العَمَلِ الإِبْدَاعِيِّ، وَمِنْ تِلْكَ الآثَارِ:

1. أَنَّها تُـمَكِّن المعنى في نَفْسِ المتَلَقِّي مِنْ خِلَالِ التَّأْثِيرِ. وبعبارة أخرى استيعاب المعنى مِنْ خِلَالِ الصُّوْرَةِ المتمثِّلة بالكلمات، أو إيراد المعنى باللغـة المصوِّرة، وهذا هو المستوى العالي لإدراك المعاني، واستيعاب المواقف مِنْ خلال اللغة. فـ التَّعْبِيرُ بِالصُّوْرَةِ يُعْطِي العَمَلَ الفَنِّيَّ قِيْمَتَهُ، ويُهَيِّئُهُ لِلْقَبُوْلِ، وَيَزِيْدُ المعْنَى وُضُوْحًا(89)، وتلك إمكانات لا تكون في اللُّغَةِ المجرَّدة، أو الكلام العادي المبَاشر.

إِنَّ الصُّوْرَةَ من أَقْوَى الوَسَائِلِ تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ، وَأَقْدَرهَا عَلَى تَثْبِيْتِ الأَفْكَارِ العَمِيْقَةِ، والمشاعر الكثيفة، والإحساس فيها(90) في أَوْفَرِ وَقْتٍ، وَأَوْجَزِ عِبَارَةٍ. وليس مرجع هذا التَّأْثِير ذات المعنى، وَإِنَّما طريقة تقديمه، أو معرضه، ووسيلة إدراك النَّفْسِ له. فإدراك المعنى بالصُّورة المحسوسة يزيد النَّفْسَ أُنسًا به، وقَبُولاً له(91).

2. أنَّهَا تُـثْرِي اللُّغَةَ، وَتُـوَسِّعُ طاقاتها، وتُكسبها دلالات جديدة تجعلها أقدر على التَّعبير، وعلى الإثارة والإيحاء. فالصُّورة تمنح الكلام تلوينًا وتنويعًا، فتجعله يراوح بين أساليب كثيرة وطرق متنوِّعة ليظهر الأسلوب جميلاً، كأن تتضمَّن الصُّورةُ مُحسِّنَاتٍ بَدِيعِيَّةً يزداد بها الأسلوب جمالاً بحسب ملاءمة تلك المحسنات.

3. أَنَّهَا تَعْمَلُ على تنظيم التَّجْرِبَة الإنسانيَّة الشَّاملة للكشف عن المعنى الأعمق للحيــاة المتمثِّــل في الخيــر والجمــال؛ من حيــث الشَّكــل والمضمــون بطريقــة إيحائيَّـة مخصبة(92).

4. أَنَّها تحمل الْمُتْعَةَ للمتلقِّين. فالصُّورة الفنيَّة تطرب النُّفوس، وتهزُّ الأعطاف؛ تعجُّبًا لما تحويه مِنْ خَيَالٍ بَدِيْعٍ، وَقُدْرَةٍ عَلَى نَقْلِ الأفكار والعواطف بطريقة عينيَّة، فهي تبثُّ الحياة والحركة في الجمادات، فتلك الأشياء التي يعهدها المتلقِّي جامدة يراها قد تحرَّكت، وانبعثت فيها الحياة. فالورد يتكلَّم، والشَّيب يضحك، والرَّبيع يختال...، ونحو ذلك ممَّا ينفث المبدعون فيه بعض مشاعرهم وأحاسيسهم لإعادة تشكيل الواقع بصورة جديدة قد تفوق الوَاقِعَ نَفْسَهُ جمالاً وتأثيرًا. وتكون الصُّورة الفنيَّة مصدرًا للإمتاع أيضًا حين تجمع بين المتباعدات. يقول عَبْدُ القَاهِرِ الجُرْجَانِيُّ : إذا استقريت التَّشبيهات، وَجَدْتَ التَّباعُد بين الشيئين كلَّما كان أشدَّ، كانت إلى النُّفوس أعجب، وكانت النُّفوسُ لها أطرب(93). وسبب ذلك - دون شك - هُو الشَّبَهُ الخَفِيُّ الذي لا ينجلي إلا بعد التَّأنُّق في استحضار الصُّورة وتذكرها، وعرض بعضها على بعض، واكتشاف النُّكْتَة المقصودة منها.

5. أَنَّها تتيح للمتلقِّي الدُّخول في جو النَّصِّ الإبداعيِّ، والعيش في عالم الْمُبْدِع للوصول إلى فكرته، ومشاركته مشاعره، وأحاسيسه، وتجربته الشُّعوريَّة، وذلك غاية ما يطمح إليه المتلقِّي، وغـايـة مـا يـسـعـى إلـيـه الْـمُـبْـدِعُ، وهو أن يكون إِبْدَاعُهُ نابضــًا بـالحياة. فَالأَصْلُ فِي الشِّعْرِ - كما يرى بعض النُّقَّاد - هو المبدع قبل المتلقِّي، ولن تحقق القصيدة شيئًا للمتلقِّي إِلَّا إذا حَـقَّـقت مـا يـمـاثـلـه للمُـبْـدِع(94)، وهـنـا يُــعْــلَـمُ أَنَّ الصُّـوْرَةَ الفَنِّــيَّـةَ لَيْـسَتْ أَدَاةَ تـزيـين، أو جزءًا يمكن الاستغناء عنه في العمل الإِبْدَاعِيِّ، كما قيل قديمًا، بل هي أداة بها تتطوّر المعاني، وتُكشف الموضوعات، وهي تنقل مواقف المبدع، وتجاربه، وانفعالاته إلى الآخرين، وتثير في المتلقِّين نظير ما أثارته في المبدع من عاطفة.

6. أَنَّ الصُّوْرَةَ الفَنِّيَّةَ فِي الشِّعْرِ تجمع مشاعر مبدع واحد هو الشَّاعر، الذي يحمل رُؤيَةً ذَاتِيَّةً للكون والحياة، بخلاف الأدب النَّثريِّ الذي تتعدَّد فيه المشاعر تبعًا لتعدُّد الشَّخصيَّات والمواقف، وهذه الذَّاتيَّة في الرُّؤية هي التي تمنح الصُّورة القدرة على الجمع بين المتناقضات والمتباعدات، وبين الأزمنة والأمكنة المتعدِّدة في لحظة واحدة، ممَّا يجعلها قادرة على الكشف، وارتياد آفاق جديدة.

7. أَنَّها وَسِيْلَةٌ مِنْ وَسَائِل التَّعبير الموجز، فهي تُعبِّر بِكَلِمَاتٍ قَلِيْلَةٍ عَنْ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّها تقصد إلى التَّركيز والتَّكثيف، وتعتمد على اللمحة الموحية للشَّيءِ وَلَا تُقَدِّمه كُلَّه، إِلَى جَانِبِ تميُّز الصُّورة بالعُمْقِ وَعَدَمِ السَّطْحِيَّةِ.

8. أَنَّها تمنح المعاني قُوَّةً وَجَلَالَاً، وبعبارة أخرى: أنَّ الصُّوْرَةَ الفَنِّيَّةَ وَسِيْلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ المبالغة في المعاني، والتَّأكيد على بعض عناصره المهمَّة، فلا يقف التَّعبير مع الصُّورة عند المعنى القليل، بل يتعدَّى ذلك إلى الزِّيادة والتَّشديد ليبلغ المعنى أقصى غاياته، وأبعد نهاياته(95)، وهذا أحد عوامل التَّأثير في المتلقِّي، كما أنَّ مِنْ شَأْنِهَا مَنْحَ التَّعْبِير شيئًا من الطرافة.

9. أَنَّـهَا تُستعمل للتَّحسين، أو التَّقبيح، أي: ترغيب المتلقي في أَمْرٍ مِن الأُمُور، أَوْ تنفيره منه، وتتحقق هذه الغاية عندما يربط الأَدِيْبُ المعَانِيَ الأَصْلِيَّةَ التي يعالجها بِـمَعَانٍ أُخْرَى أكثر حسنًا، أو قبحًا.

هَذِهِ الآثَارُ وَغَيرُهَا حِيْنَمَا تَوْضَعُ أَمَامَ عَيْنِ الـمُنْصِفِ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَا لِلصُّوْرَةِ مِنْ أَهَميَّةٍ عُظْمَى فِي العَمَلِ الإِبْدَاعِيِّ، فَالاتِّجَاهُ إِلَى دِرَاسَتِهَا اتِّجَاهٌ إِلَى رُوْحِ الشِّعْرِ، فَهِيَ تُعِيْنُ عَلَى كَشْفِ المعَانِي العَمِيْقَةِ لِلأَثَرِ الأَدَبِيِّ. إِنَّهَا -بِحَقٍّ- عِنَانُ الشَّاعِرِيَّةِ.

* * *

(1) القاموس المحيط للفيروزآبادي (باب الرَّاء: فصل الصَّاد): 398، إعداد محمَّد المرعشلي، دار إحياء التُّراث العربيِّ.

(2) آل عمران: 6

(3) ينظر: المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطيَّة الأَنْدَلُسِيِّ: 274، وتفسير ابن كثير: 2/6

(4) الأعراف: 11

(5) الحشر: 24

(6) الانفطار: 8

(7) تفسير ابن كثير: 8/80، تحقيق سامي السَّلامة، دار طيبة بالرِّياض، الطبعة الثَّانية، (1420 هـ).

(8) معجـم مقاييس اللُّغة لأحمد بن فارس (باب الصَّاد والواو وما يثلثهما): 3/320، تحقيق عبد السَّلام هارون.

(9) غافر: 64

(10) التَّغابن: 3

(11) التَّفسير الوسيط للقرآن الكريم لمحمَّد السيِّد طنطاوي: 24/159، مطبعة السَّعادة بمصر، (1406 هـ).

(12) صحيـح مسلم (رقم الحديث: 2564) كتـاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلمِ المسـلمِ وخذلِه واحتقارِه ودمِه وعرضِه ومالِه: 1035، بيت الأفكار الدَّوليَّة، الرِّياض، (1419 هـ - 1998م).

(13) النِّهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 3/58 - 59، تحقيق طاهر الزاوي ومحمود الطناحي.

(14) ينظر: كتاب التَّعريفات:210، تحقيق محمَّد المرعشلي، دار النَّفائس، بيروت، الطبعة الأولى، (1424 هـ).

(15) ينظر: جـمهرة أشعار العرب لأبي زيد الخطَّابي: 147، وشرح المعلَّقات السَّبع للزوزنيِّ: 159. ولم أجد البيت في الشُّروح الأخرى المشهورة للمعلَّقات، وقد نسبه الجاحظ في البيان والتَّبيين إلى الأعور الشَّنِّيِّ: 1/170، وأعاده المحقِّق عَبدُ السَّلام هارون إلى زهير، والبيت غير منسوب في كتاب الصِّناعتين: 218، بينما نسبه صاحب الإمتـاع والمؤانسة إلى غير زهير: 2/144.

(16) الصّحاح للجوهريِّ (باب: الرَّاء، فصل: الصَّاد): 2/616، دار إحياء التُّراث العربيِّ، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، (1419هـ - 1999م).

(17) ينظر: النَّقد الأدبيّ عند اليونان لبدوي طبانة: 75، مكتبة الأنجلو، القاهرة، الطبعة الثَّانية، (1389 هـ).

(18) ينظر: مقال (الصُّورة الفنيَّة في سياق النَّصِّ الشِّعريِّ الحديث) لبسَّام قـطـوس: 43، مـجلة أبحـاث اليرمـوك، مجلد 9، العدد: 1، (1998 م).

(19) ينظر: الصُّورة والبناء الشِّعريِّ لمحمَّد حسن عبد الله: 17، دار المعارف بالقاهرة، د.ت

(20) منهم: نصرت عبد الرحـمن. ينظـر كتابه: الصُّورة الفنـيَّة في الشِّعْـرِ الجَـاهِلِـيِّ في ضـوء النَّـقد الحـديث: 12، مكـتـبـة الأقصى، الأردن - عمَّان، الطبعة الثَّانية، (1982م).

(21) هو أبو عمرو كلثوم بن عمرو من بني تَغْلِب من بني عَتَّاب، شاعر مـحسن، وكاتب مُجيد، من ولد عمرو بن كلثوم التَّغْلَبِيِّ الشَّاعر المشهور، قَدِمَ على الرَّشيد في بغداد، وقرَّبه المأمون. توفي سنة (220 هـ). ينظر: الشِّعر والشُّعراء لابن قتيبة: 2/863، وفيات الأعيان لابن خلكان: 2/293

(22) كتاب الصِّناعتين لأبي هلال العسكريِّ: 161، تـحقيق علي مـحمَّد البجاوي ومـحمَّد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصريَّة، صيدا - بيروت، (1419 هـ).

(23) الحيوان: 3/131، تحقيق عبد السَّلام هارون، المجمع العلميّ العربيّ الإِسلَاميّ، بيروت، ط: 3، (1388هـ).

(24) ينظر: نظريَّة المعنى في النَّقد العَربـيِّ لمصطفى ناصف: 39، والصُّورة الفنيَّة في المثل القرآنيِّ لمحمَّد الصَّغير: 21

(25) ينظر: الصُّورة بين القدماء والمعاصرين (دراسة بلاغيَّة نقديَّة) لمحمَّد إبراهيم شادي: 16، مطبعة السَّعادة بالقاهرة، الطبعة الأولى، (1411 هـ - 1991م).

(26) ينظر: نقد الشِّعر لقدامة بن جعفر: 65، وكتاب الصِّناعتين: 10

(27) إعجاز القرآن للباقلانيِّ: 171، شرح وتعليق محمَّد خفاجي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، (1411 هـ).

(28) دلائل الإعجاز: 508، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، الطبعة الثَّالثة، (1413 هـ - 1992م).

(29) دلائـل الإعـجـاز: 508، ولـفـظ العـبـارة في كـتـاب الحـيـوان للـجـاحـظ: فـإنَّما الشِّعْـرُ صِـنَاعَةٌ، وضرب من النَّسج، وجِنْسٌ مِن التَّصْوِيرِ. الحيوان: 3/132، تحقيق وشرح عبد السَّلام محمَّد هارون، ط: 2، مطبعة البابي الحلبي.

(30) المرجع السَّابق: 254

(31) المرجع السَّابق: 254، 255

(32) منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 18 - 19، تحقيق محمَّد ابن الخوجة، دار الكتب الشرقيَّة، تونس.

(33) ينظر: الصُّورة بين القدماء والمعاصرين (دراسة بلاغيَّة نقديَّة): 45

(34) الصُّورة الفنيَّة معيارًا نقديَّـــًا لعبد الإله الصَّائغ: 107، دار الشُّؤون الثقافيَّة العامَّة ببغداد، ط: 1، (1987 م).

(35) يـرى الـباحـثـان جابـر عـصـفـور ونصرت عـبد الرحمـن أنَّ مـــادة (image) وتـعـني: صـورة تـمـتـد حـتَّى تـصـل إلى (imagination) وتعني: خيال. فالكلمتان الأجنبيتان يظهر بينهما علاقة اشتقاق لغوي ليست بين الكلمتين العربيتين. ينظـر: الصُّـورة الفـنـيَّـة في الـتُّراث النَّــقديِّ والـبَلاغيِّ عـنـد العــرب لجابـر عصفـور: 18، والصُّـورة الفــنــيَّـة في الشِّعر الجاهليِّ في ضوء النَّقد الحديث لنصرت عبد الرحمن: 12

(36) ينظر: بناء الصُّورة الفنيَّة في البيان العربيِّ (موازنة وتطبيق) لكامل حسن البصير: 178

(37) ينظر: مقال (الصُّورة الأَدبيَّة: الماهيَّة والوظيفة) لعبد الملك مرتاض: 178، مجلة علامات، ج22، مجلد 6

(38) ينظر: أسرار البلاغة: 267، تحقيق محمود شاكر، دار المدنيّ بجدة، الطبعة الأولى، (1412 هـ - 1991م).

(39) الطِّراز: 1/273، دار الكتب العلميَّة، بيروت - لبنان، (1400 هـ - 1980م).

(40) ينظر: التَّفسير النَّفسيِّ للأدب لعز الدِّين إسماعيل: 89، دار المعارف بالقاهرة، (1963م).

(41) ديوان ابن المعتز: 2/105، شرحه مجيد طراد، دار الكتاب العربـيّ ببيروت، الطبعة الأولى، (1415 هـ).

(42) ينظر: الأدب وفنونه - دراسة ونقد لعز الدِّين إسماعيل: 142، دار الفكر العربيِّ بالقاهرة، ط: 6، (1976م).

(43) ينظر: أسرار البلاغة: 95

(44) ديوان ابن المعتز: 2/121

(45) ينظر: الصّحاح (باب: النُّون، فصل: الدَّال): 5/1706، وأساس البلاغة للزَّمخشريِّ: 138

(46) ينظر: لسان العرب: مادة (عقق): 9/326

(47) الدِّيوان في الأدب والنَّقد لعبَّاس العقَّاد وإبراهيم المازنيِّ: 21، مؤسسة دار الشَّعب بالقاهرة، الطبعة الرَّابعة.

(48) ينظر: فصول من البلاغة والنَّقد الأدبيِّ لإسماعيل الصَّيفي وآخرين: 362، مكتبة الفلاح بالكويت، ط: 1

(49) حاول الدكتور صالح بن غرم اللّه بن زيَّـاد الأستاذ في جامعة الملك سعود - مشكورًا - رَصْدَ مُعـظمِ عناوين دراسات الصُّورة في النَّـقد العـربيِّ الحديث سواءً أكانت كتابًا، أم مقالة، أم بحثًا، أم رسالة جامعيَّة في بحث عنوانه (دراسـات الصُّـورة في النَّـقد العـربيِّ الحديث)، وقد نشـره في مجلَّـة جامعة الإمام محـمَّد بن سعـود الإسـلامـيَّـة (العـلـوم العـربـيَّـة): 197، العدد: 11، ربيع الآخر من العام (1430هـ).

(50) ينظر: الصُّورة الشِّعريَّة في الخطاب البَلَاغِيِّ والنَّقديِّ للولي محمد: 7، المركز الثَّقافيّ العربيّ ببيروت، ط: 1(1990م).

(51) ينظر: الصُّورة الفنيَّة في الشِّعر الإِسْلَاميِّ عند المرأة العربيَّة في العصر الحديث لصالح الخضيريِّ: 15، مكتبة التَّوبة.

(52) ينظر: الصُّورة في الشِّعر العَـرَبيِّ حتَّى آخر القـرن الثَّاني الهجـريِّ - دراسة في أصـولها وتطـوّرها لعلي البطـل: 27، دار الأندلس، بيروت، الطَّبعة الثَّانية، (1401 هـ - 1981م).

(53) ينظر: النَّقد الأَدبيّ الحديث لمحمَّد غنيمي هلال: 417، نهضة مصر للطباعة والنَّشر، (1997م).

(54) الصُّورة الأدبيَّة لمصطفى ناصف: 8، دار الأندلس، بيروت، الطبعة الثَّالثة، (1983م).

(55) ينظر: بناء الصُّورة الفنيَّة في البيان العربيِّ (موازنة وتطبيق):170

(56) ينظر: الصُّورة الشِّعريَّة في الخطاب البَلَاغِيِّ والنَّقديِّ: 233

(57) ينظر: كتابه (الصُّورة الفنيَّة في الشِّعر الجاهليِّ في ضوء النَّقد الحديث): 5، 8، 13

(58) أصول النَّقد الأدبيِّ لأحمد الشَّايب: 242، مكتبة النَّهضة المصريَّة، الطبعة العاشرة، (1994م).

(59) المرجع السَّابق: 259

(60) المرجع السَّابق: 249 - 250

(61) الصُّورة الفنيَّة في النَّقد الشِّعريِّ - دراسة في النَّظريَّة والتَّطبيق: 85، دار العلوم بالرِّياض، ط: 1، (1405 هـ).

(62) المرجع السَّابق: 85

(63) الصُّورة الأدبيَّة تأريخ ونقد: 149، دار إحياء الكتب العربيَّة، الطبعة الأولى، د.ت

(64) الصُّورة الشِّعريَّة عند أبي القاسم الشَّابي لمدحت سعد الجبار: 6، الدَّار العربيَّة للكتاب، ليبيا، (1984م).

(65) ينظر: النَّقد الأدبيِّ: 1/81، مطبعة الزَّهراء، بغداد، د.ط، (1967م).

(66) الصُّورة الفنيَّة في التُّراث النَّقديِّ والبَلاَغيّ عند العرب: 323، المركز الثَّقافيّ العربيّ ببيروت، الطبعة الثَّالثة.

(67) ينظر: دفاع عن البلاغة: 76 - 77، عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الثَّانية، (1967م).

(68) الصُّورة والبناء الشِّعريِّ: 32

(69) فن الشِّعر: 238، دار الثَّقافة، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، (1959م).

(70) الصُّورة الشِّعريَّة في النَّقد العربيِّ الحديث: 20، المركز الثَّقافيّ العربيّ ببيروت، الطبعة الأولى، (1994م).

(71) النَّقد الأدبيِّ الحديث: 457

(72) الصُّورة الفنيَّة في التُّراث النَّقديِّ والبَلاغِيِّ عند العرب: 340

(73) ينظر: المجمل في فلسفة الفَنِّ لكروتشه: 55، ترجمة سامي الدُّروبي، دار الفكر بالقاهرة، (1947م).

(74) ينظر: الصُّورة الأدبيَّة لمصطفى ناصف: 261

(75) قضايا الشِّعر المعاصر لنازك الملائكة: 75، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، (1983م).

(76) الصُّورة الفنيَّة في شعر دعبل الخزاعي لعلي أبو زيد: 241، دار المعارف بالقاهرة، ط: 2، (1983م).

(77) الاتِّجاه الوجدانيِّ في الشِّعر العربيِّ المعاصر: 391، دار النَّهضة العربيَّة، بيروت، ط: 2، (1401هـ).

(78) ينظر: مقال: (الصُّورة الأدبيَّة: الماهيَّة والوظيفة): 183

(79) المرجع السَّابق: 183

(80) ينظر: مقدمة في النَّقد الأَدبيِّ لعلي جواد الطَّاهر: 27، المؤسسة العربيَّة للدِّراسات والنَّشر ببغداد، ط: 2، 1983م.

(81) كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيديِّ: 755، دار إحياء التُّراث العربيِّ، بيروت، الطبعة الأولى، (1421هـ).

(82) إصلاح المنطق لابن السِّكِّيت: 54، شرح وتحقيق أحمد شاكر وعبد السَّلام هارون، دار المعارف بالقاهرة.

(83) ينظر: لسان العرب لابن منظور، مادة (فنن): 10/337، دار إحياء التُّراث العربيِّ، بيروت، ط: 3

(84) ينظر: بناء الصُّورة الفنيَّة

الصورة الفنية في شعر الرثاء عند العرب (2024)

References

Top Articles
Latest Posts
Article information

Author: Jerrold Considine

Last Updated:

Views: 6160

Rating: 4.8 / 5 (58 voted)

Reviews: 89% of readers found this page helpful

Author information

Name: Jerrold Considine

Birthday: 1993-11-03

Address: Suite 447 3463 Marybelle Circles, New Marlin, AL 20765

Phone: +5816749283868

Job: Sales Executive

Hobby: Air sports, Sand art, Electronics, LARPing, Baseball, Book restoration, Puzzles

Introduction: My name is Jerrold Considine, I am a combative, cheerful, encouraging, happy, enthusiastic, funny, kind person who loves writing and wants to share my knowledge and understanding with you.